مع كل إصباح جديد نصحو لنرتشف سموم أنباء بالية، ونقتات مع إشراقة كل شمس على حمأة الهم ووحل الانزياح، لا نعلم متى يأخذنا الوطن إلى حضنه الرؤوم ليطبطب على آلامنا، يداوي جراحنا، ويمتص آهاتنا الحرّى، وفي دهاليز الحيرة المظلمة نسير ونسير، تتعثر خطانا، تتبعثر تتلاشى ثم تضيع، نبحث عن بقايا أحلام وأمنيات تقيأناها يوماً بجانب هذه الزاوية، ننظر عن أيماننا وعن شمائلنا فلا نجد غير عواء الذئاب، أو كلاب تنهش جثة جدي أسك.
رائحة الربيع الطلق لم تعد تفوح بين جنبات أشجارنا الوارفة، حتى رائحة المطر لم تعد مثلما كانت منعشة، لقد استحالت كريهة كرائحة الأشلاء أو البنزين المحترق، أما أصوات رعاة الغنم فقد تحولت إلى نواح حزين وعويل ينشج على الأطلال، أطلال النفس ، أطلال الأماني، وأطلال وطن غائب أو مغيّب.
رصيف ذكرياتنا خلا من كل شيء جميل، ومرفأ أحلامنا لم ترسُ فيه باخرة جديدة لتأخذنا معها إلى أرض الأحلام المنتظرة، ليس في مرفئنا سوى قوارب شراعية يرفرف عليها علم أسود، ورايات خفاقة في غاية السوء، وبحارة غلاظ شداد يصرخون ويلوحون بسيوف يقطر الدم منها.
وبين تلك الأحلام التائهة تناثرت أسئلتي الحائرة، بحثتُ عمّن أستنجد به لكنني لم أجد من يجيب، لقد ذهب الجميع وتركوني وحيداً، حينها أزمعت الرحيل إلى المجاهل لا ألوي على شيء غير أن أهرب بفكري إلى موضع لا يلقاني فيه أحد.
لا أدري لماذا استشعرتُ للحظة أن طول إقامتي في وطني لم تكن سوى إقامة محدودة ومؤقتة، ما هذا الشعور بالغربة الذي بدأ يعتريني !، لماذا لا أجد وطناً يحتويني، وطناً خالياً من رائحة القتل، خالياً من أصوات القنابل، وأشلاء الصغار.
بقلم : أحمد عمر باحمادي