شهدت اليمن تغيرات متتالية في أنظمة الحكم، حيث تتداول المراحل ذهاباً وإياباً وتبقى اليمن في قبضة دولة ذات سيادة، لها حقوق وعليها واجبات تجاه الوطن والشعب، إذ أن مفهوم الدولة يقوم على ثلاث ركائز أساسية تتمثل في (وطن وشعب ونظام حكم) وتظل الدولة قائمة طالما وجدت ركائز بقاءها وإن اختلف بها المقام من حيث القوة والضعف، وحضارات سباء وحمير وقتبان وغيرها من الحضارات اليمنية خير شاهد على مكانة اليمن في أعماق التاريخ.
وبغض النظر عن مدى قدرة تلك الدول المتعاقبة على تحقيق ما يصبو إليه الإنسان من العدل والمساواة وتوفير متطلبات الحياة الحرة والكريمة لعامة الناس من عدمه أو في حدوده الدنيا، يظل الأمر في نطاق الممكن والمعقول من التحمل والصبر على مجاراة تلك الدول والتعايش معها بحسب ظروف وأحوال الواقع الذي يفرض عليها، مع توفر الحد الأدنى من وجود سلطة وهيبة الدولة لدى أفراد الشعب من جهة، واحترام ذلك الوجود والتعاطي معه من قبل العالم الخارجي من جهة ثانية.
غير أن عام جديد أطل على اليمن وهو يعاني من مأساة اللا دولة وفرض أمر واقع يؤسس لمرحلة قد تعمّها وتسودها الفوضى والانفلات والتشظي ــــ لا سمح الله ــــ ذلك أنه لم يتبقى لدولة الرئيس هادي أي عنصر من عناصر مقومات الدولة التي يحكمها، وبالتالي فلن يستمر أو يطول ما تبقى له من العمر الافتراضي في رمزية وجود الدولة التي بدأت تضيع في ظل وجوده الصامت والمريب، ولكي ندلل على هذا الأمر تعالوا بنا نستعرض تلك العناصر الأساسية التي يرتكز عليها وجود الدولة لنرى ماذا تبقّى لها من مقومات الحياة.
كما نعلم جميعاً أن دولة المرحلة الانتقالية التي أعقبت الثورة الشبابية الشعبية السلمية عام 2011م قامت على أساس المبادرة الخليجية وآليتها التنفيذية كنظام حكم ومنهج إدارة ترتب عليها قيام دولة جديدة وإن كانت في الحد الأدنى مما كان يفترض الوصول إليه، وقد اعتمدت هذه الدولة على مبدأ التوافق السياسي في معظم الأمور والمهام التي تولتها الدولة بجميع هيئاتها وسلطاتها المختلفة، وقد افضت تلك المرحلة إلى توافق واجماع وطني على وضع أسس المراحل اللاحقة عبر مخرجات الحوار الوطني الشامل، والتي حظيت بإجماع وطني وإقليمي ودولي غير مسبوق، وأصبحت تشكل خارطة طريق لإنقاذ اليمن من محنته وأدوائه، وقبل أن يجف حبر التوقيع والمباركة ظهرت معاول الهدم والتدمير وكشر الأعداء عن أنياب الحقد والكراهية لهذا الوطن وشعبه الصابر وظهرت الحجج والمبررات الواهية للانقضاض على آمال وطموحات الجماهير في وطن خالي من الفساد والاستبداد، واتجهت الأيادي نحو السلب والنهب وتعطيل ما اتفق عليه واستبداله بما سمي (اتفاق السلم والشراكة الوطنية) والذي جاء بديلاً سيئاً مفروضاً بظروف مرحلة جديدة، وكان المؤمل فيه مخرجاً للبلاد والعباد من محنتها ومتاعبها الجمّة، غير أنه لم يكن سوى دمية تلهى بها الطامعون وتستر بها المخادعون وتذرع بها الكاذبون، حتى أصبح ذلك الاتفاق في خبر كان، وعلى هذا الأساس فقد افتقدت الدولة أحد عناصر وجودها وهو النظام الذي تقوم عليه العملية الإدارية للدولة في مختلف نواحي الحياة، ولم يعد لديها ما تتمسك به في هذ الجانب، لأن أساس النظام يقوم على الالتزام الصارم والدقيق لجميع جزئياته، فضلاً عن أن يصرف النظر عن محتواه والعمل المتعمد لتعطيله بالكلية.
وبالنظر إلى عنصر الجغرافية التي يتكون منها وطن الدولة فقد باتت مجزأة تتنازعها الأهواء والمصالح الدولية والإقليمية عن طريق الأدوات والجهات المحلية الفاقدة للحس الوطني، لأن هناك من يسعى جاهداً لإعادة ترتيب الوضع الجغرافي للبلاد على أسس واعتبارات لا تمت للمصلحة الوطنية بأية صلة، ولا تستجيب لأدنى حاجات البلاد المتمثلة في الحفاظ على وحدة الهدف والمصير والسلامة من التمزق والانشطار، والناظر إلى الممارسات اليومية للعديد من الجهات وهي تتبادل الاتهامات وتختلق المبررات للسيطرة والاستحواذ على ما يتاح لها الوصول إليه من تلك الجغرافيات والمناطق المختلفة، في ظل صمت مريب لما يسمّى بالدولة (الاطلال) وبهذا تفتقد الدولة العنصر الثاني من عناصر قوتها ومبرر وجودها، مع توقع انحصار جغرافيتها في محيط مقرها فقط.
أما العنصر الثالث من عناصر مقومات الدولة فإنه الإنسان، وسواءً كان فرداً أو ضمن تكوين سياسي أو منتمياً إلى منظمات المجتمع المدني فهو محور الارتكاز لنشاط الدولة وهو هدف التنمية ووسيلتها في آن واحد، وهو من يمنح الدولة الثقة والاحترام والتقدير لما تبذله من جهود في سبيل إسعاده وتوفير ما يحتاج إليه في كافة جوانب حياته وعلى رأسها أمنه واستقراره وحفظ دمه وماله وعرضه ودينه، وسواءً كانت تلك الثقة عن طريق التصويت الحر والمباشر أو عن طريق الهيئات التي تمثل رأيه وصوته الذي يعبر عنه في معظم الأحيان، فإن ذلك يوجب على هيئات الدولة المختلفة الانصياع لرأي المواطن والنظر إلى ما ينبغي فعله من أجل توثيق عرا المحبة والترابط وعدم التفريط فيه مهما كانت الأسباب والمبررات، غير أن ما يعتمل في الواقع لا يمثل الحد الأدنى من اهتمام الدولة بمواطنيها ولا يلبي أقل مستوى من حاجياتهم الأساسية، فدماؤهم مهدورة وأموالهم منهوبة وأعراضهم منتهكة وعقيدتهم في خطر، ولم يعد لديهم ما يبرر ثقتهم واحترامهم لدور الدولة وليس هذا فحسب، بل لقد عبر الكثير من الناس عن سخطهم وبالغ أسفهم لما وصل إليه الحال، وأول من أفصح عن ذلك قيادات وقواعد حزب الرئيس هادي وأصبحوا يتهمونه علناً وبأساليب فضيعة لم نسمع بها من أي مواطن أو جهة أخرى، معلنين بذلك رفضهم لوجوده على قمة هرم الدولة، إلى جانب ما يتعرض له من ضغوط وتهديدات مبطنة من قبل المليشيات المسلحة الطامعة في الوصول إلى كرسي الرئاسة بعد أن عطلت وظائف وهيئات الدولة المختلفة وأصبحت تفرض أجندتها بقوة السلاح عند ما ترك لها الباب مفتوح على مصراعيه لاجتياح الدولة بكل سهولة ويسر.
وخلاصة القول: فإن دولتنا الموقرة في خطر عظيم وعلى وشك الضياع التام إن لم تتدارك نفسها وتنهض بأعباء المسئولية التي تحملتها تجاه الشعب والوطن، وما زال لديها الكثير من الفرص المتاحة إن صدقت النوايا وتوجهت نحو الأهداف والغايات المجمع عليها، وستكشف الأيام من هو المخلص والحريص ومن هو المخادع والماكر والمتاجر بآلام الناس وهمومهم للوصول إلى مآربه الخاصة وأهدافه الضيقة ومشاريعه الصغيرة على حساب الوطن والشعب.
بقلم: أحمد طلاّن الحارثي