حضرموت اليوم / عبد الإله تقي :
تواجه قبائل وادي حضرموت ، مليشياتِ العنف الحوثية والقاعدية وحلفاءها بالمسيرات حيناً والسلاح أحياناً أخرى ، وينبت بين حصى الوادي وأعشابه وأطلاله قرار بالمقاومة بكافّة أشكالها، وبتحدّي ما يعوق مسار الفصول ومذاق المواسم المتعاقبة.
وفي مدينة "سيئون"، عاصمة وادي حضرموت، وإحدى أهمّ مدن محافظة حضرموت، ما إن حلّ شهر رجب، شهر الاحتفالات الشعبية، حتى انطلق أهلها لإحياء "شهر الله الحرام"، بالفعاليات السنوية المتوارثة، مصرّين على مجابهة التطرّف، والتصدّي للقتل عبر التمسّك بكلّ ما يدعو للحياة، فإن صدق أنّ تسمية حضرموت تعني فناء الموت، فإنّ أهلها يسعون اليوم أكثر من أي وقت آخر، إلى أن تكون لها رواية عكس هذه الرواية.
وكعادة كلّ عام، أحيت احتفالاتِ هذا الشهر حاراتٌ متعدّدة ضمن مدينة سيئون، بدءاً من حارات المدينة وخيلة والرضيمة، بعدّة فعاليات فلكلورية مميزة. بينها تدشين سباقات الهجن، التي شارك فيها أبناء الحارات، وتنافسوا وسط حضور جماهيري كبير.
عقب سباقات الهجن، قام الشباب بجولات في شوارع المدينة، مردّدين عدّة زوامل شعبية حماسية، هي عبارة عن أشعار جماعية ملحونة، ثم تجمعوا في ساحات واسعة، حيث دارت حلقات الرقص اليمني التقليدي، التي تتميّز بها معظم الاحتفالات الفلكلورية اليمنية.
وقد أجمع السكان على أن يكرّسوا هذا العام لأنواع الرقص الحربي اللافت والمميّز، مثل الزربادي، والشَّرح، والشبواني المسماة قديماً برقصة "الحرب والسلام"، والتي كانت فاتحة الرقصات الحضرمية المتعدّدة، وأدّاها كبار السنّ ببراعتهم المعهودة في استخدام العصيّ الطويلة، التي تحلّ مكان الرماح المستعملة قديماً، ودروع الحرب المعدنية، ووزّعت في خلالها فناجين القهوة كعادة تراثية راسخة في حضرموت.
اكتسبت رقصات الوادي تميّزاً واضحاً عن رقصات السواحل الحضرية، التي يأخذ طابعها أسلوباً وحركاتٍ أكثر هدوءاً وأقلّ خفّة، لتعبّر دائماً عن القوّة والشجاعة والاعتزاز القبلي والرجولي، ويؤدي ابن وادي حضرموت رقصته داكّاً الأرض بقدميه، وصاكّاً الآذان بتصفيقة يديه القويّتين، كما في رقصات الشبوانية والرزِيح والكامبورا والبقَّارة والنَّوح.
كما تتّسم رقصات الوادي بحركات سريعة وقويّة، تعبيراً عن استعدادهم للحرب، وبراعتهم في خوض المناورات ضدّ عدوّ ينازعهم الحياة. فهم يقفزون إلى الأعلى بقوّة، وسرعان ما يستديرون حول بعضهم بمرونة، داخل حلقة المعركة الفلكلورية المسمّاة برقصة "قنص الوعل"، التي برع الحضارمة فيها منذ كانوا يصيدون هذه المخلوقات التي كانت تملأ سهول ومرتفعات الوادي.
رقصة الشرح
يستخدم راقصو "سيئون" الطبل، يتوسّط جميع المتفرّجين الواقفين على شكل دائرة كبيرة، يصفّقون تبعاً لضربات الطبل الرئيسي، ويغنّون بصوت واحد مرتفع أغاني الفخر والشجاعة. وفي حلبة المعركة يرقص اثنان أو أكثر ليجسّدوا أدوار ومشاهد الحرب المختلفة. يتواجهون بالوجوه وتتقاطع عصيّهم، في علامة المواجهة والحسم، وتشتدّ سرعتهم أكثر وأكثر، لتزداد حركتهم سرعةً ومرونة دلالةً للمهارة والمناورة، ثم يمسك أحدهم الآخر بيديه، ويرفعهما عالياً رمزاً لتآزر الخير ضدّ الشرّ، لتعلو في النهاية وجوههم الابتسامات، وتُرفع رؤوسهم للسماء علامة النصر والفخر.
وبينما تدور رحى المعركة، يجري خلفهم تنظيم حلبة معركة أخرى، يشكّلها الأطفال بعفوية، ويخوضون حربهم تقليداً لرقصات اعتزاز الكبار.
تلك رقصات قديمة، تهتزّ أرض حضرموت تحت وقعها منذ تاريخ سحيق، ورث تقاليدها العمال والفلاحون والكادحون بالشكل الغالب. ويكمن كمال تلك القيم الرجولية الصلبة في خلوّها من وجود الآلات الموسيقية الأخرى، أو مشاركة المرأة فيها، كتقليد ثقافي واجتماعي قديم، لا يزالون يؤمنون به حتى اليوم.
أما صفوة القوم، فلهم رقصتهم الخاصة ضمن رقصة الشَّرح العامة، عرفت برقصة "الشرح الريِّض" أي الرقص الهادئ، وتشتهر باسم "رقصة الصفوة". وتشارك النساء في هذه الرقصة، ولكن ليس مع الرجال، بل يرقص كل منهم بمعزل عن الآخر، ويُستعمل فيها "الهاجر"، وهو الطبل الكبير، وثلاثة "مراويس"، أي طبول صغيرة، تتجاوب خلال الإيقاع. وسمّيت بالشرح الريِّض، لاستطالة وامتداد ايقاعاتها ونبراتها وهدوئها.
فنّ الشبواني
ينقسم الحضارمة إلى أحياء في احتفالات شهر رجب، يرأس كلَّ حي "عاقلٌ" يقوم بتنظيم الأهازيج والرقصات وحلقاتها ومواعيدها والمجاميع التي تقوم بها. وأبرز ما يؤدونه هو فنّ الشبواني، المنسوب إلى مدينة شبوة في اليمن، وهي شائعة في حضرموت ومناطق أخرى من اليمن وشبه الجزيرة العربية.
والشبواني فنّ جماعي يشترك فيه عدد كبير من المحتفلين، في مقدّمتهم الشعراء وأصحاب الأكفّ القويّة للتصفيق الحادّ. ويتجمّع الناس في دائرة حول ثلاثة شعراء، ومعهم عدد متساوٍ من "الكورس"، فيرتجلون الأشعار ارتجالاً في تنافس يستثير قريحتهم وبراعتهم. وما إن ينتهي أحدهم من شعره حتى يسارع الآخر بالردّ عليه.
وتتناول الأشعار مجمل الأحداث الجارية في البلد، وتحديداً الشأن السياسي والعسكري، بحسب الظروف القائمة، وبعد فترة من المساجلة، تنشقّ الحلقات إلى صفّين متقابلين، ويبدأ رقص المجموعات بينما يتبادل الصفّان أبيات الشعر، يغنّونها بألحان قد يرتجلها أيضاً أحد كبار الشعراء الموجودين.
وتبقى مراجيز الشجاعة، وهي نوع من الأهازيج الخاصّة، حية في حضرموت مع اختفاء مناسبات صيد الوعول. لكن ابداع "القوافي" يظلّ صديقاً مرافقاً للشبواني و"أغاني الدان" وغيرها، ما دام الشعر الشعبي يصول ويجول في حياة الإنسان اليومية. وقد نقل الشعراء الغنائيون الشبواني إلى خارج حدود حضرموت، فغنّوها حيث تجمّعاتهم في شرق أفريقيا والحجاز وغيرها. كما كانت تستدعي فرق الشبواني في محافظات يمنية عديدة لإحياء مناسبات الأفراح الأسرية والوطنية.
*العربي الجديد