لازالت ذاكرتنا تختزن كثيرا من الصور المؤلمة من حقبة الدولة الاشتراكية الجنوب يمنية, ولعمق أثرها لم تستطع الذاكرة محوها, وظلت مع تعاقب الأعوام والسنين راسخة في قاع ذاكرتنا, تطفو على السطح كلما سقط فيها حجر معكرا صفوها لتعيد الطفو مرة أخرى وهكذا دوليك. في تلك الفترة الغابرة كان العلماء أبرز ضحاياها, إضافة إلى غيرهم من الشخصيات الاجتماعية والفكرية والسياسية, مما سبب هجرة كثير منهم كي ينجوا بحياته من إرهاب النظام الماركسي. وكما هو معروف إذا أردت تغييب شعب بأكمله؛ استهدف علماءه بالتغييب سواء بالاعتقال أو الاغتيال, فتخلو لك النفوس قبل الساحات للعربدة كيفما تشاء ومتى ما تشاء, لأنه بوجود سلطة العلماء الروحية تتعكر الأجواء وتختل الخطط. ولا أريد أن أبدو بصورة من يكيل التهم جزافا هنا وهناك لأطراف ما؛ سواءٌ النظام أو جماعات بعينها أو أشخاص, وإنما القصد أن أي استهداف للعلماء إنما هو استهداف للمجتمع أولا, وللمكانة المتجذرة المتوارثة لهم في عمق وجدان المجتمع ثانيا, واستهداف لثوابته ومكامن التبجيل والتعظيم فيه ثالثا, ولا أدري من في مصلحته تعكير الماء. إن ردة الفعل التي اكتسحت مواقع التواصل الاجتماعي استنكارا لما يتعرض له العلماء مؤخرا بعد التحرير في حضرموت وعدن, لا يمكن الاستهانة بها, ويعرف هذا جيدا أصحاب ذلك المشروع, ولذا نرى جليا الاستعجال في اتمام المشروع في أسرع ما يكون قبل أن ينفجر الشارع غضبا لعلمائه ومشايخه, وقبل أن تتكشف الأوراق وتتفتح الملفات, لهذا العملية تسير بوتيرة سريعة جدا تسابق الزمن. لاشك أن مستهدفي العلماء سواء بالاغتيال أم الاعتقال يدركون جيدا حقائق التاريخ التي تخبرهم أن مشاريع هذا النوع غالبا ما تبوء بالفشل وتنقلب المغانم إلى مغارم, وتكون حسرة عليهم, لكن الطغيان إذا انتفش في خبايا النفوس أعماها عن الاستفادة من عِبَر التاريخ وقصصه. وإلى هذه اللحظة والشارع يعيش صدمة مما يجري, ويرى أن المرحلة التي كان يناضل من أجلها لم تكن بالتي يريد, وأن هناك من يعبث عبثا ثقيلا جدا بأمنه, وآخرون سلبيون لا يحركون ساكنا غير البيانات والزيارات والقرارات وربما هوس الكيمرات, بينما العلماء تتخطفهم يد الغدر كل فينة وأخرى, كل هذا لاشك أنه نوع من تراكم الألآم وتزايدها في صدر المجتمع وبالتالي يزيد في احتقانه ويضمر نار الشر فيه ويجعله أقرب للفوضى والمليشيا منه للنظام والقانون. هناك تفسيرات متعددة لاستهداف العلماء والغرض منه, وكل يطرح وجهة نظره من الزاوية التي يرى من خلالها, ولكن الجميع متفق أن استهداف العلماء يهدف لضرب عصفورين بحجر؛ تغييب العلماء نظرا لدورهم وتقبّل الناس لهم ووجودهم حجر عثرة أمام أي مشروع غير مرحّب به, والتخطيط لمرحلة جديدة بصيغة جديدة العلماء خارج الصندوق فيها وربما للمتغيرات الإقليمية والدولية سبب فيها. إلى الآن لا نملك غير الاسترجاع والحوقلة مع كل فاجعة, إضافة إلى الاحباط الذي يتملكنا من أي إجراءات جادة من الجهات المسؤولة عما يجري للعلماء وحمايتهم, وبتنا في موقف المتفرج عما يصير, ونضرب بالأيمان على الأيسار ونردد لاحول ولا قوة إلا بالله. وبعد هذا الاستهداف الممنهج والسافر فإنه لا يمكن أبدا بعد اليوم أن نلوم العلماء لمغادرتهم البلاد فرارا بأرواحهم, فهم بين مطرقة الاعتقالات وسندان الاغتيالات دون أي تهمة ولم نقدم لهم شيئا يرفع الظلم عنهم ويحميهم من الاعتداء الغاشم, والملاحقات الجائرة, وقد هاجر من هو خير منهم؛ رسول البشرية صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه حينما شعر بالخطر على حياته في مكة وخرج إلى المدينة, فهم على خطى نبيهم سائرون, فاللهم ألطف بعلمائنا واجعل كيد عدوهم في نحره يا عزيز يا جبار.