حضرموت اليوم / متابعات / القدس العربي :
ما كان الأتراك بحاجة للانقلاب الأخير الفاشل في بلادهم ليستعيدوا إحساساً كبيراً بالمظلومية في العالم الحديث الذي تشكّل بعد الحرب العالمية الأولى، فجروح النجاة بكيان تركيا الحديثة ما تزال تخطّ مسار السياسات العامّة وتعيد نفسها بأشكال متعددة. الكلفة الباهظة جداً لبقاء تركيا دولة متماسكة بدل تحقق خطط روسيا وبريطانيا وفرنسا في بداية الحرب الكونية تلك بدفن السلطنة العثمانية وتفكيك أراضيها وتوزيعها بين الأرمن والأكراد واليونانيين والروس كانت حصول مجازر معروفة ضد الأرمن واليونانيين الذين هاجر منهم مئات الألوف، وخوض حرب قوميّة ضد الأكراد، ناهيك عن المحاولات الجذرية للتخلّي عن الهويّة الإسلامية وارتباطاتها العربية (من خلال تغيير الحرف العربي إلى لاتيني مثلا)، وصعود علمانية أتاتورك العسكرية الطابع، وكذلك الموافقة على بعض الشروط المذلة التي فرضها المنتصرون. يرسم حديث الرئيس التركي رجب طيب إردوغان إلى قناة «الجزيرة» أول أمس السبت خطوطا جديدة ترتبط بذاك الماضي كما تحاول رسم معالم الحاضر السياسية، ويحضر حدث الانقلاب في الحديث على شكل خط فاصل بين مرحلتين، لكنّه، بالأحرى يكشف جرحاً جديداً تتداخل فيه قضايا الهوية التركية وتراثها الإسلامي الصوفيّ العميق، الذي كانت تجربة فتح الله غولن إحدى تمثلاتها الكبرى، مع الجروح التركية القديمة ـ الجديدة، والشكّ الكبير بالقوى الدولية التي صارت الولايات المتحدة الأمريكية أقوى عناصرها الفاعلة في السياسة التركية، سواء من خلال احتوائها لغولن، أو من خلال نفوذها الكبير على الجيش، الذي لعب، خلال سنوات حكم حزب «العدالة والتنمية»، كما تبدّى واضحاً في الموضوع السوري، دور المعوّق والضابط لخطط الإدارة التركية بالتوازي أو غير بعيد عن متطلبات الأجندة الأمريكية. الأسئلة التي حاولت الأتاتوركية أن تجيب عليها بتحدّي الدول الكبرى عسكريّاً وبتمثّل أيديولوجياتها (العلمانية الجذرية والديمقراطية)، أفضت في النهاية إلى حداثة متوازنة أضعفت النزعة العلمانية الاستئصالية وخلقت اقتصادا ناجحا نسبيّاً (وعددا من الانقلابات الوحشية) وها هي تخطو باتجاه التخلّص من سيطرة العسكر على السياسة، وكذلك التعامل مع سيطرة السلفيّة الصوفيّة على مؤسسات تعليمية وإعلامية ومالية. لكن معالم النضوج الديمقراطي في النخبة السياسية التركيّة التي تبدّت في إجماعها على رفض الانقلاب العسكري لن يعفيها من تحدّيات كبرى داخلياً وخارجياً، فإضافة إلى مخاطر تنظيم «الدولة الإسلامية» المتنامية، والحرب المستمرة على حزب العمال الكردستاني (والمسألة الكردية عموماً)، انضاف الصراع مع حركة غولن، التي تمتلك جذوراً قويّة في المجتمع التركيّ. وإذا كان الجواب على المخاطر الجسيمة التي كانت تحيط بتركيا قبل قرن من الآن هو رد «الذئب الرمادي» (كما كان أتاتورك يلقّب) باستلامه صلاحيات مطلقة وردّه بقوة على محاولات تجزيء بلده، فإن جواب خلفه المعاصر إردوغان لا يختلف كثيرا (رغم اختلاف القناعات الأيديولوجية)، لكن من غرائب التاريخ أن يصبح التيار الأساسي الذي يتهدد إردوغان وحزبه هو تيّار إسلاميّ الطابع، بتحالف غريب مع استئصاليي العلمانية العسكر. إلى الضبط والربط الأمريكيين، والضغط العسكري الروسي، تضاف حملة الازدراء الأوروبية المستمرة من تركيا، والتي كانت موضوعاً أثيراً لقادة الخروج من الاتحاد الأوروبي في بريطانيا، كما أنها موضوع شديد الفاعلية في ألمانيا والنمسا وفرنسا وباقي بلدان أوروبا. رد فعل «الذئب الجريح» لم يتأخر أبداً بعد الانقلاب، حيث شهدنا حملة تطهير كبيرة لجماعة غولن في كافة قطاعات المجتمع وليس الجيش فحسب، وهو أمر قد يكون مهماً سياسياً، لكن آثاره العميقة لا يمكن توقعها لأنه يتعرّض لحركة عميقة الجذور في المجتمع التركيّ، وإذا اضيف هذا إلى عقابيل الصراع مع حزب العمال الكردستاني وتنظيم «الدولة»، فإن مخاوف حقيقية قد تحيق بالديمقراطية التركية التي هي الأسّ الحقيقي للتقدّم الحاصل في البلاد. ولعلّ فكّ الحصار عن مدينة حلب هو جزء من معالم المرحلة التركيّة الجديدة، فبعد التراجع الشديد الذي تعرّضت له المعارضة السورية المسلحة المدعومة من الإدارة التركية نتيجة تفاعلات الضغط الأمريكي ـ الروسيّ ونكوص مؤسسة الجيش التركيّ عن دعمها استردّت المعارضة السورية زمام المبادرة مما هدّد مشروع إبقاء النظام السوري الذي تقوم إدارتا أوباما وبوتين بترتيبه. باختصار: لا تستخفوا بالذئب التركيّ الجريح!