قصة بيـتـين: مررت بـوادي حضرمـوت ...

 أما البيتان فهما للشيخ عبدالرحمن بن عبدالله بن أ سعد اليافعي ( ت 797 هـ ) وهما :-

مررت بوادي حضرموت مسلماً     و ألفيت فيه من جهابذة العلا
فألفيته بالبشر مبتسماً رحبـا      أكابر لا يلقون شرقاً ولا غربــاً

             ومما يلفت النظر فيهما أنهما أصبحا محل استشهاد ورواية عند كثير من كتاب ومؤرخي حضرموت ، وتجاذبتهما أقلامهم على اختلاف مشاربهم وأفكارهم وذهب البعض إلى تحميلهما مالا يحتملانه وشرق آخرون وغربوا ، ولعل أكثرهم اهتماماً واستنطاقاً للبيتين ما سطره قلم الأستاذ الباحث   عبدالله بن حسن  بلفقيه في محاضرة بعنوان ( لمحة من زاوية التاريخ الحضرمي ) ألقاها في مقر جمعية الأخوة والمعاونة بتريم عام 1379هـ وحققها الباحث محمد يسلم عبدالنور، وهي – أي المحاضرة والتحقيق – أكثر مصادر هذه المقالة ، ويذكر الأستاذ بلفقيه أن اليافعي قام برحلته ، وقدم  خلالها من مكة إلى حضرموت ، كما يذكر أن البيتين وردت في كتب المتقدمين مثل ( الجوهر الشفاف ) للخطيب ، و ( البرقة المشيقة ) لعلي بن أبي بكر السكران ، و ( البركة والخير في مناقب آل أبي قشير ) لعبدالله بن محمد باقشير ، و ( تاريخ شنبل ) و ( السلسة العيدروسية ) ، كما ذكر البيتين محمد بن سعيد باقشير ( ت 1077هـ ) في كتابه المخطوط ( الفتوحات المكية في تراجم السادة الأئمة القشيرية ) وقال : ( ولما وصل السيد العارف بالله عبدالرحمن بن الشيخ الإمام عبدالله بن أسعد اليافعي - رحمهما الله تعالى – إلى حضرموت للزيارة قام على قبر الشيخ عبدالله باقشير وقال : (هذا رجل صاحب جد واجتهاد هذا رجل فيه غرة من وجه النبي محمد () ، هذا صاحب لواء يوم القيامة، هذا رجل يباهي الله به ملائكته أو قال أولياءه ) ، وقال عبد الرحمن أيضا – رضي الله عنه – في مشائخ حضرموت وعلمائها شعرا ...) - وذكر البيتين - .
         ويبدو أن سبب اهتمام الأقدمين بالبيتين يرجع إلى مكانة الرجل ذاته فهو ابن الشيخ عبدالله بن أسعد اليافعي الذي كانت له اتصالات بعلماء حضرموت ، وقال فيهم قصيدة ( غوثية توسلية ) - كما يقول بلفقيه – ومن أبياتها :-
وحضــرمــــوت بـهــا قـوم بفضلهم          واهتف بيوسف مهما كنت منتظرا
يستمطر الواكف الهامي من الديــم        فنـعم غــوث لمـلـهـوف ومـنـتـظــــم

            ويقودنا هذا إلى أسباب أخرى للاهتمام بالبيتين منها: أن الرجل وأباه كانا على مشارب القوم من التصوف والإغراق في المناقب وسرد الكرامات، وكذلك كونه جاور بمكة المكرمة مما يعطي لقائلهما مكانة خاصة ، فأصبح البيتان لازمة من لوازم الحديث عن العلم والعلماء في حضرموت، ومن وحيهما أنشأ الأستاذ / بلفقيه محاضرته وترجم لعدد من العلماء بدأهم بالشيخ محمد مولى الدويلة ( ت 765هـ ) وقال في خاتمة الترجمة : ( فهؤلاء هم أعلام الجهابذة ومشاهير الأكابر ) ، وأضاف الأستاذ   عبدالنور آخرين لم يذكرهم بلفقيه ، ويمكن العثور على علماء آخرين في كتب التاريخ الأخرى   ، فقد ذكر المؤرخ صالح بن علي الحامد في كتابه ( تاريخ حضرموت ج 2 ) أن الشيخ عبدالرحمن السقاف ( ت 819هـ ) صحب المشائخ علي بن سعيد باصليب الملقب بالرخيلة و الشيخ أبو بكر بن عيسى با يزيد الساكن بوادي عمد والشيخ عمر بن سعيد با جابر .


        وكما احتفى الأوائل بالبيتين فإن المتأخرين لم يتأخروا عن التقاطهما ليثبت كل منهم ما ذهب إليه من القول ، فهذا المؤرخ الأديب صالح بن علي الحامد يجعلهما حجة على وجود مئات المفتين فيقول : ( وقد تضافرت  النقول على أنه يوجد بها – أي تريم – ثلاثمائة مفت في عصر واحد حتى قال الشيخ عبدالرحمن ..) - وأورد البيتين - ، وقال الأستاذ / محمد الشاطري في ( أدوار التاريخ الحضرمي ) : ( ولما زار الشيخ العلامة عبدالرحمن بن عبدالله اليافعي حضرموت أثناء القرن الثامن وهي تزخر بجحاجحة العلماء وأكابر العباد اغتبط وانشد ... ) أما الأستاذ المؤرخ سعيد عوض باوزير فقد صدر فصلاً في كتابه ( الفكر والثقافة في التاريخ الحضرمي ) بالبيتين وذكر عدداً من العلماء في تلك الفترة .
         والغريب أن صدى البيتين لا زال حتى يومنا هذا ، وتتبع الأسلاف الأخلاف في التغني بهما ففي كتاب ( العقود العسجدية ) للأستاذ عبدالقادر بن عبدالرحمن الجنيد ورد : ( ولعل تلك المزايا الفاضلة والصفات المدهشة العالية في أولئك الرجال هي التي أنطقت الشاعر قديماً عندما زار حضرموت ) - وذكر البيتين -. واعتبرهما الأستاذ سالم فرج مفلح في كتابه ( حضرموت بين القرنين الرابع والحادي عشر الهجري ) دليلاً لإثبات مشروع رؤيته في اعتزالية حضرموت في ذلك العصر فقال : ( وبهذا نرى أن الفقيه اليافعي كان صادقاً مع نفسه ومع التاريخ فيما أصدره من حكم عن الحالة الفكرية والعلمية في حضرموت ) .
وهكذا نرى أن البيتين اليتيمين أخذا شهرة عظيمة وتأويلات كثيرة - هذا في الكتب ، أما على الألسن فقد طارت بهما الأخبار وتحدث بهما الرواة والمحاضرون ( وكل يدعي وصلا بليلى )، فرحم الله القائل والناقلين. .

إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص