الحمد لله ..
أيها الأخوة المؤمنون :
جاء في صحيح مسلم عن معاوية بن الحكم السلمي
: أنه دخل المسجد، فدخل في الصلاة مع الصحابة وراء الرسول عليه الصلاة والسلام،
فعطس رجل في الصلاة، فقال معاوية -وهو لا يعرف الحكم-: رحمك الله! فضرب الصحابة
على أفخاذهم ينبهونه، قال: ويل أمي ماذا فعلت؟! يريدونه أن يسكت، فلما سلَّم عليه
الصلاة والسلام- يقول معاوية فدعاني -بأبي هو وأمي- ما رأيت معلماً أحسن منه! ولا
أعلم منه! ولا أرحم منه! ما نهرني ولا سبني ولا شتمني وضع يده على كتفي وقال: {إن
هذه الصلاة لا تصلح للكلام، وإنما هي لقراءة القرآن والذكر والتسبيح } أي تربية
هذه ؟ وأي رفق ولين ورحمة تعامل بها صلى الله عليه وسلم مع الآخرين من حوله؟ وأي
حب أكتسبه صلى الله عليه وسلم في قلوبهم حتى أثر ذلك في سلوكياتهم وقناعاتهم بل
غير مجرى حياتهم والله عز وجل قد شهد بهذه المعاملة وآثارها قال تعالى -: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ
لِنتَ لَهُمْ, وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ,
فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ, فَإِذَا
عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ, إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) .
إن التعامل بالرفق واللين والتسامح مع
الآخرين من حولنا أمر ضروري لتستقيم الحياة ويسعد المجتمع وتتآلف القلوب وتنتشر
المودة وتظهر الرحمة ،بل هي أخلاق وقيم دعانا الإسلام إلى الالتزام بها وتطبيقها
في واقع الحياة قال تعالى ( وَلَا تَسْتَوِي
الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي
بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ) ويقول عليه الصلاة
والسلام:(من أعطي حظه من الرفق, فقد أعطي حظه من الخير, ومن حرم حظه من الرفق, فقد
حرم حظه من الخير) وقال صلى الله عليه وسلم : (( إن الله عز وجل يحب الرفق في
الأمر كله )) متفق عليه) وقال صلى الله عليه وسلم : (( من يحرم الرفق يحرم الخير ))
رواه مسلم وصاحبُ الرِّفقِ قريبٌ من
الناسِ هيِّنٌ سهلٌ رقيقٌ رحيمٌ مُحرَّمٌ على النارِ، قال عليه الصلاة والسلام :
((حُرِّمَ عَلَى النَّارِ كُلُّ هَيِّنٍ لَيِّنٍ سَهْلٍ قَرِيبٍ مِنَ النَّاسِ)) رواه
أحمدُ)
عبــــــــاد الله :
إن العنف والشدة والحقد ودوافع الانتقام
والكراهية تنذر بالهلاك فتقطع الأرحام وتكثر الصراعات وتنزع الرحمة ويحل الشقاء
ويذهب الخير بين الناس وتقوض مجتمعات بسبب ذلك وتتلاشى أمم وتنهار حضارات ... و
إِنَّ من طبيعة النفس البشرية بغضها للإنسان غليظ الطباع قاسي القلب سريع الغضب
فجاء الإسلامِ بالتيسير والرفق فكان سمَةٌ
عَظِيمَةٌ ظاهرةٌ، تتجلَّى في عقائدِه وعباداتِه ومعاملاتِه وأخلاقِه، وفي
الصَّحِيحِ أَنَّهُ مَا خُيِّرَ صلى الله
عليه وسلم بين أمرين قط إلا أخذ أيسرهما ما لم يكن إثماً ، فإن كان إثماً كان أبعد
الناس منه ، وما انتقم رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه في شيء قط إلا أن
تُنتَهَك حُرمةُ الله ؛ فينتقم لله تعالى [ متفقٌ عليه ] .
ومن مظاهر رفقه بالمسلمين عامة، ما
جاء عن أبي مسعود الأنصاري قال: قام رجل فقال: يا رسول الله، لا أكاد أدرك الصلاة
مما يطوّل بنا فلان، فما رأيت النبي في
موعظة أشد غضبًا من يومئذ، فقال صلى الله عليه وسلم : ((أيها الناس، إنّ منكم
لمنفرّين، فمن صلى بالناس فليخفّف؛ فإن فيهم المريض والضعيف وذا الحاجة) (رواه
البخاري) .. وَفِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا
أَنَّهُ قَالَ: ((إِذَا أَرَادَ اللهُ
عَزَّ وَجَلَّ بِأَهْلِ بَيْتٍ خَيْرًا أَدْخَلَ عَلَيْهِمُ الرِّفْقَ)) رواه
أحمدُ
.. بل إن من عظمة الإسلام وسمو تعاليمه أن
أمر المسلمين بالرفق وحسن التعامل حتى مع الحيوان قبل أن تقوم جمعيات الرفق
بالحيوان في أوربا وأمريكا بالدعوة إلى ذلك بمئات السنين فمن ذلك أن لا يشق المسلم
على الحيوان بتحميله ما لا يطيق، فقد دخل النبي صلى الله عليه وسلم بستانًا
لرجل من الأنصار، فوجد جملا، فلما رأى الجملُ النبي صلى الله عليه وسلم حنَّ،
وانهمرت الدموع من عينيه، فذهب النبي صلى الله عليه وسلم إلى الجمل، ومسح خلف
أذنيه فسكت، ثم سأل عن صاحبه، فجاء فتى من الأنصار، فقال: أنا صاحبه يا رسول الله.
فقال صلى الله عليه وسلم: (أفلا تتقي الله في هذه البهيمة التي ملَّكك الله إياها؛
فإنه شكا إلى أنك تُجيعه وتُدئبه ( أي تتعبه وترهقه) رواه أبو داود].
وعن
المسيِّب بن دار قال : " رأيتُ عمرَ بنَ الخطّابِ ضربَ جَمَّالا ، وقالَ : لِمَ
تَحمِلُ على بعيرِكَ ما لا يُطيق ؟!
أيها الأخوة الكرام الأعزاء :
ومن الرفق رفقُ الولاةِ والمسئولين ومن كان
له منصب بمن تحت أيديِهم والشفَقَةُ عليهم حكمةٌ رفيعةٌ من السياسةِ الناجحةِ،
وسببٌ للامتثالِ والطاعَةِ؛ فإنَّ العُنْفَ من هؤلاءِ يورثُ الكراهيَةَ والتذمُّرَ
والتضجُّرَ والسخط ولذلك كان صلى الله عليه وسلم يبتهلُ إلى اللهِ عزَّ وجلَّ كما
روت عائشةُ رضي اللهُ عنها فيقول: ((اللَّهُمَّ مَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي
شَيْئًا فَشَقَّ عَلَيْهِمْ فأشقق عَلَيْهِ، وَمَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي
شَيْئًا فَرَفَقَ بِهِمْ فأرفق بِهِ)) رواه مسلمٌ،)
إنك
لا تكاد تجد ساحة من ساحات الإسلام إلا وللرفق فيها النصيب الأكبر والحظ الأوفر،
سواء على مستوى التشريع الفقهي أو في جانب العلاقات الاجتماعية أو في المعاملة حتى
مع الخصوم والأعداء أو في غيرها من المواطن، هذا فضلاً عن أنه –تعالى- عرف نفسه
لعباده بأنه الرفيق الذي يحب الرفق قال صلى الله عليه وسلم : (( إن الله رفيق يحب
الرفق ، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف ، وما لا يعطي على ما سواه )) رواه
مسلم ) .
(
ادفع بالتي هي أحسن ...) فالدفع بالتي هي أحسن مبدأ عظيم من أخلاق الإسلام
الربانية الرفيعة ، يسمو بها المسلم إلى أعلى مراتب النبل في تعامله مع الناس . سلوك
خلقي جامع ، يشمل خصال الرحمة والسماحة والحلم والعفو والإيثار وغيرها مع كل الناس
، المحسن منهم والمسيء ، الصالح والطالح ، العدو والصديق . إكسير فعال من رب
العالمين لمن يطلب أسباب التوفيق والنجاح في علاقاته الاجتماعية ، حتى في مواطن
الخصام أو العداوة. سلوك خلقي تقابل فيه إساءة غيرك بالإحسان ، (فإذا الذي بينك
وبينه عداوة كأنه ولي حميم ..) فلا تخوض مع الخائضين بالإساءة ولا تُستفز من
اللاغين بالغضب و أخذ الثأر. ومعلوم من طبيعة النفس عدم احتمال الإساءة ، ناهيك أن
تقابلها بالإحسان ، لكن ما أجمل أن تربي نفسك وتسمو بها وتروضها على ذلك متمسكا
بقوة الصبر وصلابة العزيمة ،فتكون في ثباتك على الإحسان دون إساءة ، ذا حظ عظيم ،
كما يقرر قوله تعالى {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا
يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ } ،ولك أن تجني أطيب الثمار وأزكاها بتعاملك
الراقي مع خصومك وبدفعك بالتي هي أحسن ومن هذه الثمار :
ـ
أولا : الانتصار على دوافع الأنانية
والغضب والانتقام ، وما قد يترتب على ذلك من ردود أفعال لا تحمد عقباها .وفي ذلك
تزكية النفس التي تسمو على دواعي الاستفزاز والإغاظة { وإِذَا خَاطَبَهُمُ
الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً }، .
ـ
ثانيا : تأليف القلوب وتوطيد أواصر المودة
بينها ،بالسماحة والعفو ولين المعاملة ،
لأنها تميل الى ذلك وترتاح اليه :{ وإذا ما غضبوا هم يغفرون }.{ وَإِذَا سَمعوا
اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُم
سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ }.
ـ
ثالثا : الانتصار على كيد الشيطان الذي يذكي أسباب العداوة بين الناس لإفساد دينهم وأخلاقهم و دنياهم.{إنما
يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء } .
ـ
رابعا : نيل ثواب الكاظمين الغيظ والعافين
عن الناس { الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ
الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنْ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ } قال
صلى الله عليه وسلم ( وما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا . وما تواضع أحد لله إلا
رفعه الله )..
فكن أخي الكريم مع الناس ، كالنخلة المثمرة
، ترميها بالحجر فترميك بالثمر، { ولمن صبر وغفران ذلك من عزم الأمور }.
جعلني الله وإياكم ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه أقول ما قد سمعتم.....
.
الخطبة الثانية :
أيها المؤمنون
:
ومن
أخلاق الإسلام في التعامل والتي ينبغي للمسلم أن يتصف بها خلق التسامح وهو خلق عظيم وقرين الرفق واللين وهو علامة
وصفة مميزة للمؤمنين الصادقين ذلك أنهم يعفون ويصفحون ويسامحون عن من أساء إليهم
أو أخطأ في حقهم أو أنتقص من قدرهم ولا يحملون الأحقاد والضغائن وحب الانتقام في
نفوسهم لأنهم نظروا إلى الأجر والرفعة والمنزلة عند الله بسبب عفوهم وسعة صدورهم
فرضوا بذلك وصبروا على التمسك بهذه القيم والأخلاق العظيمة عن أبي هريرة رضي الله
عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما نقصت صدقة من مال، وما زاد الله
عبدًا بعفوٍ إلا عزًا، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله" [رواه مسلم] .. وقال
تعالى (
فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ ) ، وقال
سبحانه:( فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى
يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ ) .
وأحيانا يفهم البعض أن التسامح نوع من الضعف
أو الخوف ويتمنون الانتقام من خصومهم ونسي هؤلاء إن التسامح هو من أخلاق سيد
الأنبياء صلوات ربي وسلامه عليهم أجمعين
فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم
يعيش هذا الخلق بين أصحابه ومع أعداءه واقعاً في الحياة .. فعندما دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة
منتصرًا، جلس صلى الله عليه وسلم في المسجد، والمشركون ينظرون إليه، وقلوبهم
مرتجفة خشية أن ينتقم منهم، أو يأخذ بالثأر قصاصًا عما صنعوا به وبأصحابه. فقال
لهم النبي صلى الله عليه وسلم: (يا معشر قريش، ما تظنون أني فاعل بكم؟)... قالوا: خيرًا، أخ كريم، وابن أخ كريم.. قال: (اذهبوا
فأنتم الطلقاء) .
فكم واجه النبي صلى الله عليه وسلم من أذى المشركين ، وكان دعاؤه لهم وليس
عليهم : ( اللهم اغفر لقومي فإنهم لايعلمون ) . فحين أقبل على أهل الطائف بالإحسان
داعيا مرشدا ، قابلوا إحسانه بعنف الإساءة وقذفوه بالحجارة وأدموا عقبه ، لكنه صبر
واحتسب ، وما كان يهمه الا رضا الله تعالى: ( اللهم ان لم يكن بك غضب علي فلا
أبالي ) ولما عرض عليه ملك الجبال ،بأمر الله تعالى أن يطبق عليهم الأخشبين ، قال
في حلم وعفو ورحمة :( بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله لا يشرك به
شيئا )( رواه مسلم)
فأين من يغالِبهم حبُّ الانتصار والانتقام؟! أين
هم من خلُق سيِّد المرسَلين ؟! سئِلَت عائشة رضي الله عنها عن خلُق رسولِ الله صلى
الله عليه وسلم فقالت: لم يكن فاحِشًا ولا
متفحِّشًا ولا صخَّابًا في الأسواق، ولا يجزِي بالسيِّئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح.
رواه أحمد والترمذي قال تعالى ( وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ
آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ
وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا
غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ ) .
عبــــــاد الله :
إنه
ينبغي للمسلم أن يدرك وهو يتعامل مع غيره من البشر أن سنة الله اقتضت في حقهم
الخطأ والتجاوز والنسيان بل تتعدى نفوسهم أحياناً إلى الظلم والعقوق والتنكر
للمعروف والتنصل من الواجبات والتعدي على الآخرين والله سبحانه وتعالى قد شرع
الأحكام والعقوبات للحد والزجر من ذلك فشرع القصاص من القاتل وهذا حق لأولياء الدم
وشرع الحدود بقطع يد السارق وجلد أو رمي الزاني
وفي المقابل رغب في الصفح والعفو والتسامح .
فهذا عمر بن عبد العزيز لما سقاه غلامه السم وحل
به المرض دعا غلامه فقال له ويحك ما حملك على أن سقيتني السم قال ألف دينار
أعطيتها وعلى أن أعتق قال هاتها فجاء بها فألقاها في بيت المال وقال له اذهب حيث
لا يراك أحد .
{رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا
وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي
قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ }
جعلني الله وإياكم من أهل التقوى
والإحسان في الأقوال والأفعال ، والمسارعين إلى مغفرة منه ورضوان ..وصلوا وسلموا ...
خطبة جمعة بمسجد عمر
حيمد بسيئون – القرن
9/ ربيع الثاني / 1433هـ الموافق 2/3/2012م
تسجيل صوتي