الحمد لله ..
أيها الأخوة المؤمنون :سنقف إن شاء الله في
خطبتنا هذه عن فضيلة كبيرة من فضائل الإسلام،دعا إليها الإسلام،وحبب فيها وأمر بها
وجعلها إحدى صفات الأبرار من عباده، بل هي إحدى عناصر الشخصية المسلمة،هذه الفضيلة
الضخمة لا يستطيع حملها إلا المؤمنين الأقوياء، وقد ضرب الله المثل لضخامتها فأبان
أنها تثقل كاهل الوجود كله،فلا ينبغي للإنسان أن يستهين بها أو يفرط في أدائها،قال
تعالى :( إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها،وأشفقن
منها وحملها الإنسان،إنه كان ظلوماً جهولاً ) إنها فضيلة الأمانة أيها الاخوة،نعم
الأمانة فقد دعا الإسلام إليها فقال :( إن الله يا مركم أن تؤدوا الأمانات إلى
أهلها) وقال ربنا سبحانه :( فليؤد الذي أوتمن أمانته وليتق الله ربه ) وجعلها
القرآن إحدى صفات عباد الله الأبرار قال ( والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون )
وجعلها الرسول صلى الله عليه وسلم إحدى عناصر الشخصية المسلمة، فعن عبادة بن
الصامت : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { أضمنوا لي ستاً من أنفسكم أضمن
لكم الجنة : أصدقوا إذا حدثتم وأوفوا إذا وعدتم،وأدوا إذا اؤتمنتم،وغضوا
أبصاركم،واحفظوا فروجكم،وكفوا أيديكم }رواه أحمد وابن حبان والحاكم والبيهقي ..
والأمانة هي الفريضة التي يتواصى المسلمون برعايتها ويستعينون بالله على
حفظها،فعندما يكون أحدهم على أهبة السفر يقول له أخوه {استودع الله دينك وأمانتك
وخواتيم عملك}رواه الترمذي .
أيها المسلمون :
فما
هي الأمانة التي نحن بصدد الحديث عنها،إن كثيرا من المسلمين يقصرون الأمانة على
معنى واحد فقط،ويحصرونها في مفهوم ضيق،فإذا سألت أحدهم ما هي الأمانة؟ لا جابك
بسرعة إنها حفظ الودائع وإعادتها إلى أصحابها،فهذه هي إحدى صور الأمانة،وأن معناها
وحقيقتها في دين الله أثقل وأضخم من ذلك . فدعونا نستعرض بعضاً من صور ومعاني
الأمانة التي أمر بها الإسلام .
فمن معاني الأمانة،( وضع الرجل المناسب في
المكان المناسب)فلا يسند منصب إلا للشخص الجدير به، ولا تملأ وظيفة إلا بالرجل
الذي تؤهله كفائتة لذلك المنصب ويعتبر الإسلام الأعمال والمناصب والمسؤليات هي
أمانات في أعناق من تسند لهم {فعن أبي ذر قال : قلت يا رسول الله ألا تستعملني؟ أي
ألا تعطني مسؤولية – قال : فضرب بيده على منكبي،ثم قال : يا أبا ذر، إنك ضعيف،
وإنها أمانة،وإنها يوم القيامة خزي وندامة،إلا من أخذها بحقها وأدّى الذي عليه
فيها)رواه مسلم .
والأمانة تقتضي إسناد المناصب العامة إلى
الأمناء الأقوياء { القوي الأمين } فلا يكفي أن يكون المسؤول قوياً فقط تنقصه
الأمانة فإنه بذلك سينهب أموال الأمة ويسرقها ولا يكفي أن يكون المسؤول أميناً غير
قوي لا يملك من المؤهلات ما يمكنه من إدارة ذلك العمل، وهذا هو نبي الله يوسف عليه
السلام يرشح نفسه لإدارة شؤون المال ليس بنبوته وتقواه فحسب، بل بحفظه وعلمه أيضاً
قال تعالى على لسان يوسف عليه السلام : ( أجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم )
وإن من تضييع الأمانة بل ومن الخيانة أن تعطى المسؤوليات لمن لا يستحقونها فقد قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم :{من أستعمل
رجلاً عل عصابة وفيهم من هو أرضى لله منه ، فقد خان الله ورسوله والمؤمنين}رواه
الحاكم ، فأين هؤلاء الذين ضيّعوا الأمانات وأوكلوا المسئوليات المدنية والعسكرية
إلى أقاربهم وابنائهم وأصدقائهم وأبناء مناطقهم ، لم يراعوا في ذلك كفاءة ولا
أمانة ، بل أصبح مقياسهم في ذلك المناطقية الضيقة .
إن هذا الأمر جد خطير وينذر بشر مستطير إذا
لم ينتبه له العقلاء وخاصة بعد ثورات الربيع العربي ونحن ننشد التغيير، فإنه لا
ينبغي لمن آلت إليهم أمور الأمة أن يقعوا في نفس الأخطاء التي وقع فيها الحكام
المستبدون في الأنظمة البائدة حتى لا تلحق بهم لعنة الله ، نعم والله إنه لأمر جد
خطير فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم {من ولّي من أمر المسلمين شيئاً فأمّر
عليهم أحداً محاباة فعليه لعنة الله ، لا يقل الله منه صرفاً ولا عدلاً حتى يدخله
جهنم) رواه الحاكم ..
أيها المسلمون عباد الله
:
معنى آخر من معاني الأمانة وهو أن لا يستغل
الرجل منصبه الذي عين فيه لجر منفعة شخصية له أو لقرابته ، فإن التربح والتكسب من
المال العام جريمة { قال الرسول صلى الله عليه وسلم من استعملناه على عمل فرزقناه
رزقاً فما أخذ بعد ذلك فهو غلول}رواه أبو داؤود ، لان ذلك يعتبر أختلاسا من المال
العام ، فهو غلول ، قال تعالى ( ومن يغلل يأتي بما غل يوم القيامة ) ولقد شدد
الإسلام في ضرورة التعفف عن استغلال النفوذ في التكسب والإثراء فعن عدي بن عميرة
قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :( من استعملناه منكم على عمل
فكتمنا مخيطاً فما فوق كان غلولا يأتي به يوم القيامة )رواه مسلم ، لا إله الا
الله ، ما أعظم عدد الإسلام ، مخيطاً أتدرون ما هو المخيط : إنها الإبرة التي
تستخدم في الخياطة والتي نسميها بالعامية (المخوط) فمن كتمها وأضافها إلى ماله
كانت عليه يوم القيامة غلولاً يأتي بها ، فكيف بالذين يستغلون مناصبهم ليثروا ثراء
فاحشاً على حساب الأمة ، وكيف بالذين ينهبون الأمة والشعب ، وماذا هم قائلون لربهم
من ينهبون الثروات في باطن الأرض ويبيعون غازها بأبخس الأثمان ، ماذا هم قائلون
لربهم من ينهبون ثروات الأمة البحرية والسمكية نهبوا ما فوق الأرض ومافي جوفها ،
ونهبوا ما في باطن البحر وخارجه .
أيها الاخوة المؤمنون :
يكفي الأمة وثرواتها ما تعرضت له من نهب
وسلب وأن الأمة اليوم تتطلع أن توضع البلاد في أيدٍ أمينة حقاً ، تحفظ للشعب
ثرواته ، فإن البلد قد حباها الله سبحانه وتعالى بثروات نفطية وفيرة وثروات سمكية
غزيرة ، وثروات زراعية ، ومناطق سياحية ، وموقعاً جغرافيا متميزاً بين دول العالم
، كل هذه الموارد كفيلة بأن تجعل الشعب يعيش حياة كريمة عزيزة ، ولكن متى إذا
أصبحت هذه الثروات في أيدي من يحافظون عليها لا من ينهبونها ..
أيها الاخوة المؤمنون :
من معاني الأمانة أن تحفظ حقوق المجالس التي
تشارك فيها ، فلا تدع لسانك يفشي أسرارها ، ويسرد أخبارها ، فكم من علاقات توترت ،
حبال تقطعت ومصالح تعطلت لاستهانة بعض الناس بأمانة المجلس وذكرهم ما يدور فيها
وينشرونه بين الناس ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( إذا حدث رجل رجلاً
بحديث ثم التفت ، فهو أمانة )رواه أبو داود . وحرمات المجالس ينبغي أن تصان ما دام
الذي يدور فيها مضبوطاً بقوانين الأدب وشرائع الدين ، وإلاّ فليست لها حرمة ، قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم :( المجلس بالأمانة ، إلاّ ثلاثة مجالس : مجلس سفك
دم حرام ، أو فرج حرام ، أو اقتطاع مال بغير حق ) رواه أبو داود . فعلى كل مسلم شهد
مجلساً يمكر فيه المجرمون بغيرهم ليلحقوا به الأذى ، أن يسارع إلى منع حدوث ذلك
قدر استطاعته.
ومن معاني الأمانة الودائع التي تدفع إلينا لنحفظها حيناً ، ثم
نردها إلى أصحابها حيث يطلبونها هي من الأمانات نسال عنها ، (فليؤد الذي أؤتمن
أمانته وليتق الله ربه) وقد استخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم عند هجرته ابن
عمه علي بن أبي طالب رضي الله عنه ليسلم المشركين الودائع التي استحفظها ، مع أن
هؤلاء المشركين كان بعضهم ممن آذى رسول الله صلى الله عليه وسلم واضطروه إلى ترك
وطنه في سبيل عقيدته ، لكن الشريف لا يتضع مع الصغار ، قال ميمون بن مهران :(
ثلاثة يؤدين إلى البر والفاجر : الأمانة ، والعهد ، وصلة الرحم ) ويقول المصطفى صلوات الله ربي وسلامه عليه :(
اد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك ) أخرجه الدار قطني ، وأما من يعتبرون
الوديعة غنيمة وينكرون صاحبها ويغالطون فإن ذلك من أعظم الذنوب التي تورد صاحبها
نار جهنم ، فعن عبدالله بن مسعود رضي الله عن قال:( القتل في سبيل الله يكفر
الذنوب كلها إلاّ الأمانة ، قال : يؤتى بالعبد يوم القيامة ، وإن قتل في سبيل
الله- فيقال : أدّ أمانتك ، فيقول : أي ربّ ، كيف وقد ذهبت الدنيا؟ فيقال :
انطلقوا به إلى الهاوية ، وتمثل له امانته كهيئتها يوم دفعت إليه ، فيراها فيعرفها
، فيهوي في أثرها حتى يدركها ، فيحملها على منكبيه ، حتى إذا ظن أنه خارج زلت عن
منكبيه ، فهو يهوي في أثرها أبد الآبدين ، ثم قال الصلاة أمانة ، والوضوء أمانة ، والوزن أمانة ، والكيل
أمانة ، وأشياء عدّدها وأشد ذلك الودائع ) رواه أحمد .
ومن صور الأمانة ، أمانة المشورة ، فإن
المشورة أمانة ، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(
المستشار مؤتمن ) أي انه أمين فيما سئل
فيه ، وعنه أنه صلوات الله ربي وسلامه عليه قال :( من أِشار على أخيه بأمر يعلم أن
الرشد في غيره فقد خانه ) رواه أبو داود والحاكم .
أيها الاخوة الكرام :
الله الله في الأمانة فإنها مقياس الأيمان
في قلب المؤمن فعن أنس رضي الله عنه قال : ( ما خطبنا رسول الله صلى الله عليه
وسلم إلاّ قال : لا إيمان لمن لا أمانة له ولا دين لمن لا عهد له ) رواه أحمد .
وإن ضياع الأمانة لهي من العلامات الدالة
على قرب الساعة فقد جاء رجل يسأل النبي صلى الله عليه وسلم : متى تقوم الساعة؟
فقال له : إذا ضيعت الأمانة فأنتظر الساعة ، فقال : وكيف إضاعتها؟ قال : إذا وسد
الأمر لغير أهله فأنتظر الساعة ) رواه البخاري
أقول ما قد سمعتم ...
الخطبة الثانية :
الحمد لله
الأخوة الكرام الأعزاء :
يتوجه يوم غد السبت أبناؤنا الطلاب
والطالبات إلى قاعات الامتحانات لخوض الامتحانات النهائية ، فنسأل الله لهم
التوفيق والنجاح ، ونشد على أيديهم ونسأل الله أن ييسر لهم الامتحانات ، وبعد
أسابيع قليله تبدأ الامتحانات النهائية للمرحلتين الأساسية والثانوية ، وما نود
التطرق إليه هنا وهو ما يرتبط بالأمانة فإن أبناءنا وبناتنا أمانة في أعناقنا ،
أمانة في أعناق الآباء والمربين ، أمانة في أعناق المعلمين والتربويين ، أن نعلمهم
ونربيهم ، ولكن للأسف الشديد أن هناك أموراً بدأت تقلقنا على أبنائنا وبناتنا ألا
وهي ظاهرة الغش في الامتحانات وبالأخص في امتحانات إنهاء المرحلة الأساسية
والثانوية ، وظاهرة الغش ظاهرة خطيرة إذا أنشرت فإنها ستدمر مستقبل الأجيال ،
والغش أيها الاخوة أمر يتنافى مع الأمانة التي تحدثنا عنها في الخطبة الأولى وما
يقلقنا أكثر أن الغش أصبح علنياً ، بل وصل الأمر أن يقوم بعض المراقبين بمساعدة
الطلاب على ذلك وفي هذا الخصوص فإننا نقول :
أولاً : إن الغش حرام ومرتكبه آثم لأنه صورة من صور التفريط في الأمانة والنبي
صلى الله عليه وسلم قال :( من غشنا فليس منا ).
ثانياً : إن الغش يؤدي إلى تهاون كثير من الطلاب في المذاكرة والاستعداد
للامتحان لأنهم يرون أنهم سيمرون بالغش في الامتحانات ، بل ويحبط الطلاب المجتهدين
عندما يرون غيرهم يغشون ثم يحققون الدرجات العالية وفي الأخير يزاحمونهم على مقاعد
الدراسة في الجامعات .
ثالثاً : إننا عندما نسمع أو نغض الطرف عن الغش فإننا بهذا نغش أبناءنا وطلابنا
ونخدعهم ونجعلهم يحققون درجات ليس من جهدهم وإنما من جهد غيرهم .
رابعاً : ينبغي أن يتحلى المراقبون بالمسؤولية ، ونحن نثق في معلمينا ،
وأبناؤنا أمانة بين أيديهم ولكن البعض قد يتهاون في أداء واجبه ، ونقول لهؤلاء ان
شخصيتك ومكانتك تهتز في نفوس الطلاب عندما يرون المعلم وهو قدوتهم والذي ينبغي
عليه أن ينصحهم فإذا هو يساعدهم على ذلك .
خامساَ : ينبغي على الجهات المختصة في إدارات التربية والتعليم أن تفعل دورها
في هذا المجال ، وتفعل القوانين الرادعة لذلك .
سادساً : نصيحة نوجهها إلى أبنائنا فلذات أكبادنا ، نقول لهم ، الله الله في
الأمانة ، عززوا الثقة في أنفسكم واعتمدوا عل إمكانياتكم ، وإياكم والغش ، فإن من
غششك فإنما غشك ، وإن من يساعدك عل الغش إنما يخدعك ، وستندم في المستقبل على ذلك
، يا شباب : المستقبل أمامكم وأنتم لازلتم في بداية المشوار فابدأوا حياتكم نظيفة
، واستمروا على الجد والمثابرة ، فإن من يغش اليوم في قاعات الامتحانات ، سيغش
غداً في مكاتب الإدارات وفي دواوين الوزارات ويكفينا ويكفي الأمة والشعب من
الغشاشين والفاسدين ، فالأمل معقود عليكم ، فآباؤكم ينتظرون تخرجكم وأنتم تحملون
شهادات النجاح الحقيقية التي حققتموها بجهدكم وسهركم لا الشهادات المزورة التي
جاءت بالغش والخداع ، وأسركم تنتظر تخرجكم ، وأوطانكم تتلهف إليكم لتشاركوا في
بنائها فأنتم اليوم طلاب وغداً ستقودون هذا المجتمع إلى بر الأمان إن شاء الله
تعالى واعلموا أن من جد وجد ومن زرع حصد
وبقدر الكد تكتسب المعالي *** ومن طلب العلا سهر الليالي
ومن رام العلا من غير كد *** أضاع العمر في طلب المحال
تروم العز ثم تنام ليلاً ***
يغوص البحر من طلب اللآلى
وصلوا وسلموا ..
الجمعة 11/7/1432هـ
الموافق1/6/2012م
بمسجد عمر حيمد بسيئون –
القرن
(تسجيل صوتي)