أ.د. مسعود عمشوش
أسباب هجرة الحضارم إلى السعودية وبعض سماتها في رواية (سالمين):من المعلوم أن اختيار كثير من الحضارم، لاسيما الدواعنة، السفر إلى أرض الحجاز يعود إلى ما قبل القرن الماضي. وهناك عدد من الحضارم الذين تبوأوا بعض المناصب الدينية والسياسية في الحجاز قبل الحرب العالمية الثانية (انظر مسعود عمشوش: الدواعنة في الحجاز). ومما لا شك فيه أن هجرة الحضارم إلى السعودية اتسعت بشكل كبير بعد الحرب العالمية الثانية. فمنذ ذلك الحين أصبحت السعودية، لأسباب مختلفة، هي المحطة الأولى للمهاجرين الحضارم. وفي نهاية الفصل التاسع من رواية (سالمين) يشرح حمد أسباب تحول الحضارم من المهجر الشرقي في جزر الأرخبيل الهندي إلى المهجر السعودي، قائلا: "جاوة لم تعد حلم الحضارم بعد الحرب العالمية الثانية، بل أصبحت السعودية الحلم الجديد الذي بدأ الكثير يرنو إليه".ص50 ويقول بشيء من التفلسف لكي يبرر قراره الشخصي بالسفر إلى جدة: "كنت الشاهد على توافد أهل جاوة إلى حضرموت، وسفر البعض إلى السعودية، فالحياة لا تتوقف في حد، ولا حدود للحياة، والناس في الحياة لا حدود لأفراحهم وأحزانهم، الحياة تعلمنا الدروس، لكن من ذا الذي يستفيد؟ السفر إلى جدة، وخاصة إلى جدة أخذ يدغدغ أفكاري. ويبدو أنه لا مشقة في ذلك والتجارة بقرب مكة خير من التجارة في مناطق بعيدة، وباستطاعتي تكوين تجارتي من المال الذي ورثته من أملاك أبي في جاوة. أمرت صالح عوض وكيل أبي أن يبيع بعض ما يملك والدي وإرسال ثمنه إليّ. لأن الأخبار التي تأتي من تلك البلاد لا تسر، إذ استولت الحكومة على أموال الناس، والحياة تصعب على الحضارم، والأموال لا تتدفق على حضرموت كما كانت". ص50 ونتبيّن لاحقا أن صالح، والد حمد، كان قد أدى فريضة الحج من مهجره الشرقي، وقام باستخراج جواز سفر سعودي -وبالتالي جنسية سعودية- وأضاف فيه اسم ابنه حمد، وقام كذلك باستثمار جزء من ماله في جدة.
ومن الأمور التي يبرر بها حمد قراره السفر إلى جدة: الأوضاع السيئة التي كانت حضرموت تمر بها حينذاك، فهو يقول: "ما عليَّ إلا أن أشق طريقي إلى أرض الحجاز التي ذاع صيتها، والناس يسافرون إلى هناك، والأرزاق متوفرة وكثيرة، والأمان يسود، بينما في حضرموت القلاقل وقطع الأرزاق، وانجرامس مع حكومته يفرضون ضرائب على البدو". ص50-51
إضافة إلى ذلك، يذكر الراوي سالمين أن من أسباب هجرة الحضارم، بعد مغادرة بريطانيا لأراضي الجنوب، رغبتهم في الهروب من النظام الاشتراكي وكثير من الإجراءات التي فرضها، مثل التأميم والخدمة العسكرية الإلزامية. ويؤكد الراوي سالمين: "كان الوصول إلى السعودية يعني تحقيق حلم التجارة والغناء بسرعة، الوجوه تتدفق من كل مكان إلى السعودية، وكان النصيب الأكبر للجيران (اليمن)، إذ حصلوا على فرص كثيرة واستثمروها وحققوا تجارة لا يستهان بها في المملكة العربية السعودية، فبعد وصولنا بعقود إلى السعودية اعتقدنا أن الهجرة ستتوقف بعد قيام الجمهوريات في الشمال والجنوب، لكننا رأينا العكس، فقد جاءت بعدنا أجيال، ولكل جيل خصوصيات وظروف مختلفة، فالجيل الذي أعقبنا، الذي جاء بعد قيام حكومة الجنوب، كانت هجرته بسبب قلة العمل وتأميم الدولة للبيوت، والأشخاص كلهم موظفون لدى الدولة، لا تجارة ولا استثمار، وسبب آخر: هو الخدمة العسكرية التي ينفر منها الشباب، ولا يريدون تأديتها ويضطرون للهجرة إما بجواز شمالي أو عن طريق التهريب، وفيما بعد تُصرف لهم إقامات". ص78
ويُبرز الراوي إحدى أهم السمات التي، في رأيه، تميز هجرة الحضارم إلى السعودية عن هجرتهم إلى جاوة. فالهجرة إلى السعودية ضمت عددا كبيرا من الصبية الحضارم للعمل في البيوت. ويذكر حمد أنه عندما وصل إلى جدة نزل ضيفاً على سعيد ابن خاله الذي عمل صبيا عند إحدى الأسر المكاوية، ويقدمه على النحو الآتي: "سعيد أحد المهاجرين الدواعنة الذين سافروا مبكرا إلى مكة قبلي بحدود عشرين سنة، كان عمله شاقا مع الأسرة المكاوية، أول ما وصل مكة ذهب به أحد أقاربه إلى عائلة مكاوية تريد صبيا يغسل الصحون، ويجيب لهم البضاعة من البقالة وبعض أمور البيت، مثله مثل الكثير ممن سبقوه، خاصة الدواعنة الذين اشتغلوا صبيانا في بيوت أهل مكة يغسلون الصحون. وبعد مرور سنوات أصبح البعض تجارا صغارا وكبرت تجارتهم، مثل سعيد ابن خالي". ص57-58 ويذكر حمد أن كثيرا من هؤلاء الصبية غيّروا أسماء عوائلهم الحضرمية إلى أسماء عوائل مكاوية من أجل الحصول على الجنسية السعودية. ص59.
سالمين ومشكلة التمازج في المهجر السعودي:
من اللافت أن يحرص حمد، الذي جاء إلى جدة من حضرموت حيث لا تزال راسخة التركيبة الاجتماعية التقليدية التي تقسّم الحضارم إلى قبائل ومشائخ وقروان ومساكين وعبيد، والذي صُدِم كثيرا بما يعتمل في مجتمع ميناء جدة من تمازج وتزاوج بين السكان المسلمين من مختلف الأقطار والأجناس والفئات الاجتماعية منذ مئات السنين، على اصطحاب عبده الأسود سالمين معه إلى جدة، وأن يمنحه حريته والجنسية السعودية، وأن يجعله مساعدا له في تجارته.
ومن الواضح أن ذلك الحرص يعكس رغبة مؤلف رواية (سالمين) في تقديم بعض الظواهر التي برزت وسط المهاجرين الحضارم في السعودية وأبنائهم وأحفادهم من وجهة نظر أحد المهاجرين الحضارم الذين يقعون في أسفل التركيبة الاجتماعية التقليدية في حضرموت: العبد الأسود سالمين.
وفي الجزء الأول من الرواية يترك المؤلف مهمة تقديم سالمين لسيده حمد الذي قال عنه: "سالمين أحد أملاك والدي. اشتراه من وادي حجر، حالته كحال الكثير من العبيد الذين يشترونهم من مناطق قريبة أو بعيدة من حضرموت". ص24
ولأن حمد كان في حضرموت يراعي كثيرا مشاعر عبده سالمين فقد أخفى عنه تفاصيل كثيرة عن أصله، لكنه في جدة، وبعد أن لاحظ التغير الكبير الذي طرأ على سالمين لم يتردد في الكشف له عن حقائق مؤلمة تتعلق بجذوره. وقال له: "هكذا يا سالمين نسيت البلاد بعدما وصلت إلى جدة، التهيت بالتجارة والمال وأصبحت حرا بعد العبودية وحياة التعب والبهذلة في تلك الجبال والأودية، ولعلك نسيت أبوك وأمك، ولم تبحث عنهم بعدما كبرت، ورزقك الله بالعيال والبنات والأحفاد. هكذا يا العبد..". ص65
لهذا، عندما طلب سالمين من سيده حمد أن يخبره عن هوية أبيه وأمه يرد عليه: "يا سالمين، أنا لا أعرف لا أبوك ولا أمك. والدي اشتراك من تاجر من وادي حجر اسمه محمد عامر مقابل ثور. ولأول مرة يعرف سالمين أنه تم بيعه مقابل ثور. حاولت ألا أخبره بالحقيقة، لكن كانت زلة لسان مني بعد أن أخفيت هذه الحكاية لسنوات طوال عندما كنا نعيش في دوعن، لكن في مدينة جدة لا سر يختفي، وكل شيء ينكشف مع مرور الأيام. عندما سمع سالمين بالثور اهتز في مكانه، صمت للحظة ثم جهش البكاء، وقال لي: أرجوك يا سيدي حمد ألا تخبر أحد بحكاية الثور، أريد أن يكون هذا سر بيني وبينك إلى يوم القيامة، خاصة أولادي وأحفادي لا أريدهم يعرفون أنه قد تم بيعي مقابل ثور". ص61 ويواصل الراوي حمد حديثه معمما: "سالمين العبد حالته كحالة الكثير من العبيد في حضرموت الذين لا يعرفون آبائهم أو أمهاتهم، فمن تمّ بيعه في السوق وهو صغير، وبيع أمه وأبوه في مكان آخر في حضرموت أو البلدان الأخرى المجاورة، أو تمّ اختطافه وهو صغير، لا يعرفون شيئا عن أهلهم". ص61
وقد لاحظ الراوي حمد اهتمام عبده سالمين بظاهرة التمازج بين الفئات الاجتماعية والأجناس السائدة في جدة، والتي يطلق عليها "التهجين"، وقال: "كلما جلس سالمين مع أبنائه يعيد الحديث عليهم، ويوضح لهم فوائد التهجين في عالم مهجّن، ويشرح لهم شهوة التغير التي حصلت في جدة، فمعظم سكان جدة غيّروا من عاداتهم ومن شكلهم أيضا. فجدة مدينة الشهوة في كل شيء، لا شيء فيها غير قابل للتغيّر والتحول عبر الزمن من مرحلة إلى أخرى. ويكرر سالمين "وليش ما نهجّن عيالنا؟ وكل جدة مهجنة وقابلة للتغير، في حاراتها، في ناسها، وكل سنة تتبدل جدة بناس آخرين آتين من كل بقاع الدنيا، ويتم التهجين على مراحل وعلى مستوى العوائل؛ فهناك عوائل لا تحمل من تاريخها إلا الاسم فقط، فلو ننظر إلى أشكالهم نجدهم أشد بياضا من آبائهم وأجدادهم، لأنهم تهجنوا وتم الزواج من سلالة تختلف عن سلالتهم. تناسوا أصلهم وأرضهم، غرتهم حياة الدنيا كما غرتني، ومن حقي أن أهجنكم، فليس حلالا عليهم وحراما عليّ. وإلا هم بيض ونحن سود يحرم علينا التهجين؟".69-70
فبعدما استقر سالمين في جدة وتحولت حياته من العبودية إلى الحرية، وتحول إلى تاجر يملك الملايين وعمارات وفنادق في ومكة والمدينة، تزوج من امرأة بيضاء. ويخبرنا الراوي حمد أن "عقدة سالمين وسواده المفرط دعته أن يجمع أبناءه ذات يوم في مجلسهم ونصح كل واحد منهم ألا يتزوج من اللون الأسود". ص67
وفي الواقع لم تكن ظاهرة (التهجين) محصورة في فئة معينة من المهاجرين الحضارم، فحتى نهاية الستينيات من القرن العشرين، لم تختلف الهجرة الحضرمية إلى السعودية، فيما يتعلق بطبيعتها الذكورية، عن الهجرة إلى جاوة أو إلى سواحل شرق إفريقيا. فالذكور هم فقط هم من كانوا يهاجرون للعمل، ويتزوجون هناك بنساء من المحليات أو من بنات المغتربين من الجنسيات الأخرى، وربما، في فترة لاحقة من بنات المهاجرين الحضارم الذين تزوجوا من نساء غير حضرميات. ويؤكد حمد أن ابن خاله سعيد قد "تزوج من عائلة سعودية من الطائف أصولها مغربية، وكان أولاده يختلفون كثيرا عن أبناء الحضارم في لون بشرتهم وهيئتهم". ص61 وبالنسبة له، يعترف أنه، بعد مرور سنوات من وصوله إلى جدة، تزوج من سوسن، فتاة حضرمية تحمل اسم عائلة مكاوية. وكانت زبونته في أحد محلات الذهب! وكان مهرها تسجيل أحد محلاته باسمها. ويذكر حمد إنه أسرع في الزواج من سوسن، حضرمية الأصل ومكاوية المولد، والتي لم تكن مخلصة له، كرد فعل لما قام به ابن خاله سعيد، ويؤكد أنه "لولا زواج سعيد من الطائف لما تزوجت سوسن". ص61
ويخبرنا العبد سالمين أن أرملة سيده حمد "سوسن المكاوية، تحولت إلى عاشقة، وتحول ابنها حسن إلى كل جنسيات الإبداع، من شاعر إلى كاتب إلى أديب، هي شهوة الحياة وعقدتها ومرضها التي تجعل الكثيرين يريدون أن يصبحوا شخصيات كبيرة ومعروفة وهم في الحقيقة لا شيء. لست أدري لماذا العظماء دائما أبناؤهم ضعفاء ومتسلطون. الشيح حسن أخذ من طباع أمه المكاوية، ولا غرابة أنه لا يشبه أباه، ومن شابه أمه فقد ظلم". ص99
وكل ذلك لم يمنع سالمين أن يمتدح التهجين قائلا في نهاية الرواية: "عشت ثلاثة عوالم، عالم الطفولة والخطف، وعالم العبودية، وعالم التهجين في جدة، الذي أبصر النور لأحفادي الذين بدأ البعض منهم يتزوجون من بنات الحجاز أصلا وفصلا على سنة الله ورسوله، لكي ينبثق النور بعد الظلام، وتتبدد سيرة رجل أسود، ويبقى للون المهجن نكهته الخاصة التي تميزه عن الكثير من الأجناس". ص103
نقد أحفاد المهاجرين الحضارم في السعودية
ومع ذلك انتقد سالمين كثيرا من سلوكيات أبناء المهاجرين الحضارم في جدة "الذين يشبهون أمهاتهم!"، ويتنكرون لجذورهم، ويرفضون زيارة حضرموت أو حتى سماع اسمها، ويقول: "أنا لا أستحي من حضرميتي برغم أنني أسود، وأرفع رأسي في جدة عندما يسألوني أنت من فين؟ أقول لهم من حضرموت، وليس كما يفعل البعض من عيال المهجنين الذين يقولون لك بلا خجل: "يا بويااااا أنا مش حضرمي، أنا سعوووودي ...". سالمين شاهد على تغيرات جدة، فأراد الله أن يمد بعمره ليشاهد بعينه التغيرات في حياته وحياة أحفاده الذين أصبح وضعهم مثل وضع البعض من أبناء الحضارم، الذين تهجنوا وأصبحوا يمقتون بلاد أجدادهم ولا يزورونها، وعندما يطلب منهم مجرد زيارة للبلاد يسمع منهم سالمين العبارة التي يسمعها عادة من الكثير من أبناء الحضارم وخاصة من أحفاده: يا بويا بلا حضرموت وبلا قرف، خلينا نروح إلى مصر بيروت أو باريس، إيش نسوّي في حضرموت، كلها غبار وقرافة". ص69-70
وبسبب سلوكيات بعض أبناء المهاجرين الحضارم في جدة يضطر سالمين إلى مقارنة المهجر الشرقي بالمهجر السعودي، قائلا: "كانت جاوة سلة الحضارم والأرض التي يزرع فيها وينبت، وكلما تحركت التجارة هناك نرى حضرموت يصلها جزء من الحركة، وكلما ضاق الحال على جاوة ضاق حال حضرموت في أقصى الجزيرة العربية، جاوة هي المنطقة التي ستظل سيرتها بحضرموت والحضارم سيرة عطرة، سيرة بنيت على أساس قويم، وهو أساس الصدق والمحبة والعطاء بين الحضارم وأهل جاوة. كل من ذهب إلى جاوة جاء ومعه خير كبير، فكل البيوت عمرت في حضرموت من خير جاوة وخير إفريقيا، كان الشباب يذهبون إلى تلك البلاد يطلبون الرزق ويؤسسون لهم تجارة متواضعة، والبعض تجارة متوسطة أو تجارة كبيرة، والقرش يجيب القرش، وترسل القروش إلى البلاد لبناء البيوت وتعمير حضرموت". ص99-100
إضافة إلى ذلك، يذهب سالمين إلى ربط النجاح التجاري لبعض أبناء المهاجرين في جدة بالمال الذي كسبه أجدادهم الحضارم في جاوة، إذ يقول: "كان الشيخ حسن [ابن حمد من سوسن المكاوية] يتشدق في كل مجلس بأنه تعب في التجارة، ولا يعلم أن التجارة أسسها جده صالح في جاوة، ومن ثم نقلها والده إلى مدينة جدة. وبعد صبر ومكافحة وصل سيدي حمد إلى خير كبير بفضل الله ثم بفضل مال والده الذي أسسه في جاوة". ص99
في الختام، أعتقد أنه من الصعب إدانة سلوك الموالدة الإندونيسيين من أصل حضرمي أو المهجنين السعوديين من أصل حضرمي، فكما سبق إن ذكرنا- يظل الانتماء إلى مسقط الرأس أقوى من الانتماء إلى الجذور أيا كانت. وقبل أن يرفض (المهجنين الحضارم) في السعودية العودة إلى حضرموت، رفض أحفاد الحضارم الموالدة في جاوة، في ثلاثينيات القرن الماضي، مطالب آبائهم الذين توزعوا بين إرشاديين وعلويين، بوضع حب حضرموت قبل حبهم لإندونيسيا التي اعتبروها وطنهم الأجدر بولائهم. ويبدو لي أنهم على حق.