أحمد عمر باحمادي..
أخذ ( أنور ) يركض لاهثاً حتى حاصروه في زاوية ضيّقة، أرادوا أن يُفهموه ماذا يعني تشجيعه للفريق الأزرق بينما هم يشجعون الأصفر بتعصب، ضربوه حتى سالت الدماء من فمه ومنخريه، لم يستطع أثناء ذلك أن يركل أحدهم أو يصيبه لأن واحداً منهم أمسكه من خلفه مقيداً يديه فصار كالفأر بين قطط مسعورة، أو كيتيم في مائدة اللئام.
تبعثرت قَصة شعره، توسخ لباسه الذي كان عبارة عن قميص ( فانيلا ) طبق الأصل من فانيللات فريقه الذي يشجعه، واستحالت إلى لون آخر بعد أن اختلطت زرقتها بلون الدم السائل منه، وتمزقت إثر الكدمات الكثيرة التي نالها.
اشترى أنور الفانيلا قبل المباراة بأيام، وبالرغم من ارتفاع ثمنها إلا أنه تدبر المبلغ ونال ما يصبو إليه، وكم كانت فرحته عظيمة وهو يقلبها بيديه، ويشمها بأنفاسه مستنشقاً رائحة عشقه الكبير، كُتب اسم لاعبه المفضل ورقمه خلف الفانيلا، وحيك شعار النادي بإتقان بشكل تستعصي معه إن يزول الشعار أو يبهت مهما تمّ غسل القميص مرات ومرات، وعلاوة على ذلك ختم الأمر بشراء حذاء أزرق وليكن ما يكون.
استلقى على سرير غرفته الزرقاء، كانت صور لاعبيه المحبوبين تستولي على مساحة كبيرة من الجدار المحاذي لسريره، وعلى طاولة الدراسة يبدو غلاف مذكرته وقد اكتظّ بصور اللاعبين وفريق المشجعين من زملائه الذي جمعهم عشق المستديرة، وسترى مثل ذلك على جواله وحاسوبه الشخصي ودراجته الهوائية.
في صباح اليوم التالي ذهب أنور إلى الحلاق لينحت على شعره قَصّة لاعبه المفضّل، كانت القصة مكلفة، لكن لايهم، ما دام العشق يهوّن كل شيء في نظر العاشق، لجأ إلى والدته الحنونة وتمسكن بين يديها حتى ظفر بالمطلوب .. لم يتجرأ يوماً أن يطلب من أبيه فوق ما خصصه له من مصروف، إذ هو مصروف كافٍ وزيادة، لكنه دوماً يجد ضالته عند أنه أمه .. ما أعظمكن أيتها الأمهات !
لم يتذكر يوماً أنه بكى في حال دعاء أو قراءة قرآن، أو عند سماع أو مشاهدة مقطع مؤثر، لكنه يتذكر جيداً ذلك اليوم عندما بكى بحُرقة بعد هزيمة فريقه المفضّل، انقطع عن مدرسته لأيام، ولم يبرح بيته لينجو من لوم أعدائه وشماتتهم، وأصبح أمام تحدٍّ مالي كبير لا يعلم كيف سينجو منه هذه المرة، فقبل المباراة دخل أنور في مراهنة خطيرة مع مخالفيه من مشجعي فريق الخصم، وتراهنوا على الفوز، واتفقوا على أن من فاز فريقه فله عند المهزوم عشاءً فاخراً في مطعم المدينة، وبالفعل فقد انتصر خصومه مجدداً، وبقي في عهدته لهم هذا العشاء الفاخر، ولعله العشاء الأخير.
سافرت به الذاكرة لترسو به إلى مرافئ ذلك اليوم الذي خرج فيه مع أصحابه منتصرين، طافوا حول المدينة ليلاً بدراجاتهم النارية وسياراتهم مطلقين أبواق مركباتهم احتفاءً بفوزهم العظيم ونكاية وإغاظة للخصوم وتحدياً لأنصار الفريق المهزوم وإرغاماً لأنوفهم في التراب، صنعوا ضجيجاً وإزعاجاً تناقلته وسائل الإعلام، وبين ذلك حدثت بعض من المعارك وسالت دماء الطرفين من الشباب.
كان صديقنا من بين الضحايا يومئذٍ، وها هو اليوم يقع مجدداً فريسة سهلة في قبضه خصومه التقليديين فيما بدا أنه حقد دفين تجدده الأيام والهزائم، أوجعوه ضرباً حتى أيقن أن المصائب لا تأتي فرادى، لم يحتمل المعاناة التي يعانيها في نهاية كل موسم. استوعب الدرس .. أخيراً .. وها هو اليوم يقبع في أحد المقاهي .. وفمه محكم الإغلاق .