يعيش المسلمون اليوم في «غيتو» كبير، غيتو جغرافي ممتد من سواحل شرق آسيا إلى إفريقيا الغربية، وغيتو تاريخي ممتد من مضارب العرب إلى مدن الصفيح، وغيتو فكري ممتد من أزمة إحراق كتب المفكرين إلى أزمة تفخيخ عقول المكفرين، وغيتو نفسي يشتت المسلمين اليوم ما بين جوهر الدين ومظهر المتدينين. هذا الغيتو يعكس مشكلة العقل المسلم اليوم، تلك المشكلة التي تكمن في الخوف من التجديد، والتمسك بالأفكار التي طرحت في زمان غير الزمان ومكان غير المكان، وظروف مختلفة. إنها المشكلة التي دار حولها مفكرو عصر النهضة، وما زالت حتى اليوم تمثل قضية القضايا في الفكر الإسلامي المعاصر. مشكلة عدم التفريق بين ما هو ديني إيماني روحاني، وما هو عرفي تقليدي مادي. مشكلة عدم التمييز بين الثوابت والمتغيرات، بين الزماني الدائم والزمني المؤقت، بين العرف والتشريع، بين تقاليد قريش وتعاليم الإسلام، بين ثقافة القبيلة القديمة وروح الإسلام المتجددة. تكمن المشكلة في التركيز على الأحكام لا على عِلَلِها، على الفقه لا على أصوله، أو لنقل على فقه الأحكام، لا فقه المقاصد. هذه المعضلة كرّسها مع الزمن الخوف الغريزي من الخروج على المألوف، والقلق من ارتياد آفاق جديدة، والخجل من مغادرة تقاليد الآباء، وأحياناً يكون مبعث تلك المشكلة في الخشية الدينية من إغضاب الله. وهنا تكمن إشكالية العقل والوجدان المسلم الذي يهرب من غضب الله إلى إغضاب الله، ظناً منه أنه باستمراره في الولاء لإرث أجداده، إنما يستمر في ولائه لله. وتلعب مظاهر النفاق الاجتماعي، وضوابط المؤسسات الدينية التقليدية، والخوف من ردات الفعل الجماهيرية والمؤسساتية دوراً كبيراً في تجذير هذه المعضلة. وقبل عقود طويلة قامت أنظمة عسكرية في العصر الحديث بمحاولات «اعتسافية» لحل هذه المشكلة، التي تبدو مستعصية على حلول المعاصرة، كما استعصت على حكمة الأصالة. فشلت محاولات حل هذه المعضلة سياسياً وأمنياً وعسكرياً، لسبب بسيط، وهي أنها معضلة فكرية، ومأزق روحي، لا يمكن التعامل معه بأدوات العنف، أو حتى بأدوات السياسة بعيداً عن جوهر المشكلة الذي يحيل على تعقيدات فكرية واجتماعية متراكمة. إن مقاربة هذه المشكلة ينبغي أن تكمن في تفكيكها، هذه المشكلة البنيوية العميقة تحتاج إلى تفكيك، للوصول إلى النواة الصلبة التي جعلتها تستعصي على كل الحلول، وهذا التفكيك لن يتم بأدوات عنيفة، أو حتى أدوات سياسية غير عنيفة، بل لا بد من ابتكار أدوات تنتمي إلى الحقول المعرفية التي نشأ ضمن سياقاتها هذا الإشكال الخطير. التفكيك لا يكون إلا بأدوات تستخدم من داخل المشكلة لمناقشتها ونقض طروحاتها، ومن ثم البناء على الأنقاض، بعد تسوية الساحات للبناء الجديد، الذي لا شك أنه سوف يكون على المداميك الأصلية، لكن بعد التخلص من الزوايا المظلمة التي نسجت العنكبوت بيتها في شقوقها. وفي إطار مقاربة هذه المشكلة على المسلمين اليوم أن يعوا أن ظروف البدايات غالباً ما تكون مغايرة لظروف ما بعدها، وبالتالي فإن التمسك بالمقولات التي أنتجتها تلك الظروف لا يعدو كونه ضرباً من المكابرة والمجافاة للظروف الجديدة التي أنتجت – أو هكذا ينبغي لها- مقولات مغايرة، وهذا ما فهمه إمام القياس في الفقه الإسلامي، أبو حنيفة النعمان عندما قال مقولته الشهيرة: هم رجال ونحن رجال. وهنا يجب الإشارة إلى حاجتنا لمفكرين على قدر عال من الاستشراف المعرفي والنقاء الروحي والزهد في بهارج الحياة المادية، والتحلي بروح المغامرة والاستشهاد، والتجرد لوجه الله، لوجه الحقيقة، كي يقولوا للمسلمين اليوم، إنَّهم بحاجة لا إلى تعلم مقولات النبي الكريم عليه السلام وحسب، ولكن تعلم طرائق تفكيره، وبواعث تصرفاته، ودوافع سلوكياته التي استطاع بها أن يغير وجه التاريخ الوسيط. يروي أصحاب السير أن فقيراً جاء للنبي عليه السلام يسأله مالاً فأعطاه بدل المال فأساً، يحتطب به ويكسب منه المال. هذا بالضبط ما يجب أن يأخذه المسلمون من نبيهم: الفأس التي تنتج، لا المال المستهلك. إن مثل المسلمين اليوم في اعتمادهم على نبيهم في حاجاتهم الدينية مثل ذلك الفقير الذي جاء للنبي ليعطيه مالا فأعطاه فأساً. نحن- بحق- بحاجة للفأس لا للمال، لأن المال ينتهي بنهاية من يعطيناه، لكن الفأس يستمر معنا – مصدر تمويل- بعد موت من يعطيناه، المال هو المتغير والفأس هو الثابت، المال هو الأحكام الفقهية، والفأس هو مقاصد التشريع، المال هو الظنيات والفأس هو اليقينيات، والمال هو اللباس المادي، والفأس هو لباس التقوى، و»ذلك خير». المال- إذن- هو الحلول الجاهزة التي يريدها المسلمون من نبيهم، فيما يمثل الفأس العقل المبدع الذي يولد هذه الحلول، وهذا ما ينبغي أن نأخذه عن النبي الكريم. إن الكسل الذهني الذي أصاب المسلمين اليوم في التعاطي مع تراثهم الديني، وحرصهم على الحصول على الحلول الجاهزة لمشكلاتهم الحضارية من هذا التراث، هذا الكسل الذهني يشبه ذلك الكسل الجسدي الذي أصاب ذلك الفقير «السائل» الذي جاء إلى النبي يريد منه مالاً جاهزاً لحل مشكلته المادية، هذا الكسل يعكس مدى «فقرنا الدماغي»، وضحالتنا الفكرية، ولا يعني- بحال- فقر الإسلام أو نضوبه الروحي. إن الدين ليس بنكاً للحلول الجاهزة المقولبة للمشكلات الحضارية التي تعترض أولئك المصابين بـ»كسل ذهني»، كما لم يكن النبي بنكاً للمال المخزون لحل المشكلات المادية للكسالى من الناس. هذا الخلل في الفهم، هذا الخلط بين الفأس والمال، يجسد جانباً من المعضلة التي تبدو مظاهرها الجارحة في التناقض الحاد بين تفاخر المسلمين الفارغ بدينهم واعتمادهم المهين على دنيا غيرهم، في الصورة الإشكالية لمرشد روحي يقف وراء ميكرفون لم يصنعه ليلعن صانعيه، في المفارقة الموجعة بين حشود المتظاهرين المسلمين الذين يحرقون الأعلام الأمريكية، قبل أن يحتشدوا حول سفارة واشنطن لتعبئة استمارات الهجرة إلى الولايات المتحدة. إنها معضلة أولئك الذين يريدون هزيمة القوى الاستعمارية بالأسلحة ذاتها التي يحصلون عليها من شركات تسليح تملكها حكومات تلك القوى العالمية. بالمختصر المفيد: في الدين ما هو ثابت إلهي، وهو كل ما تعلق بالقيم النبيلة والروحانيات الخالدة والعبادات الثابتة، وفيه ما هو متغير بشري، وهو كل ما له علاقة بطبيعة مجاميع بشرية معينة في مكان وزمان محددين.
إضافة تعليق