سحائب المغفرة في شهر شعبان

الحمدُ لله الذي بنعمته اهتدى المهتدون ، وبعدله ضل الضَّالون , ولحكمه خضع العباد أجمعون , لا يُسألُ عما يفعل وهم يُسألون , لا مانعَ لما وَهَب، ولا مُعْطيَ  لما سَلَب، طاعتُهُ للعامِلِينَ أفْضلُ مُكْتَسب، وتَقْواه للمتقين أعْلَى نسَب ...  بقدرته  تهبُّ الرياحُ ويسير الْغمام، وبحكمته ورحمته تتعاقب الليالِي والأيَّام  ...  أحمدُهُ على  جليلِ الصفاتِ وجميل الإِنعام، وأشكرُه شكرَ منْ طلب المزيدَ وَرَام، وأشهد أن  لا إله  إلاَّ الله الَّذِي لا تحيطُ به العقولُ والأوهام، وأشهد أنَّ محمداً عبدُه ورسولُه  أفضَلُ الأنام،  صلَّى الله عليه وعلى صاحبه أبي بكرٍ السابق إلى الإِسلام، وعلى عمَرَ الَّذِي إذا  رآه الشيطانُ هَام، وعلى عثمانَ الَّذِي جهَّزَ بمالِه جيشَ  العُسْرةِ وأقام، وعلى عليٍّ  الْبَحْرِ الخِضَمِّ والأسَدِ الضِّرْغَام، وعلى سائر آلِهِ وأصحابِه والتابعين لهم بإِحسانٍ على الدوام، وسلَّم تسليماً كثيراً أما بعــد : -

عبـــــــــاد الله      :

إن من أعظم نعم الله تعالى على العباد أن يمدّ الله قي عمر أحدهم وكل يوم يبقى  في هذه الدنيا هو غنيمة له ليتزود منه لأخرته، ويحرث فيه ما استطاع ويبذر فيه من الأعمال ما يرفع درجته ومكانته عند الله , فالدنيا دار عمل ولا حساب والآخرة دار حساب ولا عمل  قال تعالى (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا) ..  وطول العمر في الإسلام مع حسن العمل فيه خيرية الدنيا والآخرة عن أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "ألا أنبئكم بخيركم؟" قالوا: نعم، يا رسول الله قال: خياركم أطولكم أعماراً، وأحسنكم أعمالاً)..  عنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَدَّادٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ ( إِنَّ نَفَرًا مِنْ بَنِي عُذْرَةَ ثَلَاثَةً أَتَوُا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَسْلَمُوا فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " مَنْ يَكْفِينِيهِمْ ؟ " قَالَ طَلْحَةُ : أَنَا . فَكَانُوا عِنْدَهُ ، فَبَعَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْثًا ، فَخَرَجَ فِيهِ أَحَدُهُمْ ، فَاسْتُشْهِدَ ، ثُمَّ بَعَثَ بَعْثًا فَخَرَجَ فِيهِ الْآخَرُ ، فَاسْتُشْهِدَ ، ثُمَّ مَاتَ الثَّالِثُ عَلَى فِرَاشِهِ ، قَالَ : قَالَ طَلْحَةُ : فَرَأَيْتُ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةَ فِي الْجَنَّةِ ، وَرَأَيْتُ الْمَيِّتَ عَلَى فِرَاشِهِ أَمَامَهُمْ وَالَّذِي اسْتُشْهِدَ آخِرًا يَلِيهِ ، وَأَوَّلَهُمْ يَلِيهِ ، فَدَخَلَنِي مِنْ ذَلِكَ ، فَذَكَرْتُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ  ذَلِكَ ، فَقَالَ : " وَمَا أَنْكَرْتَ مِنْ ذَلِكَ ؟ ! لَيْسَ أَحَدٌ أَفْضَلَ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ مُؤْمِنٍ يُعَمَّرُ فِي الْإِسْلَامِ ; لِتَسْبِيحِهِ وَتَكْبِيرِهِ وَتَهْلِيلِهِ ) حسنه الألباني   وإن من أعظم الغفلة أن يعلم الإنسان أنه يسير في هذه الحياة إلى أجله، ينقص عمره، وتدنو نهايته، وهو مع ذلك لا يحتسب ليوم الحساب، ولا يتجهز ليوم المعاد، بأعمال صالحة تبلغه رضوان الله وجنته فتجده مفرط في العبادات والطاعات فإذا ما جاءت مواسم العبادات والمنح الربانية التي بها تغفر الذنوب والزلات وجدته مقصراً ومضيعا لأيامه وسنواته فأين العمل الصالح؟ وأين بركة العمر؟ وأين اغتنام فرصة العمر والصحة والشباب والغنى والقدرة والقوة ... عن بن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل وهو يعظه : " اغتنم خمسا قبل خمس شبابك قبل هرمك وصحتك قبل سقمك وغناك قبل فقرك وفراغك قبل شغلك وحياتك قبل موتك " (صححه الألباني).

عبـــــــــاد الله      :

ها هي أعمارنا وآجالنا تطوى يوماً بعد يوم وها هو شهر شعبان يكاد ينتصف وقد غفل الناس عن فضائله ومنحه وجوائزه الربانية فقد شرع فيه جميع أعمال البر من الصدقة وقراءة القرآن والذكر والصيام و قد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم أكثر أيامه وعندما سئل عن ذلك أخبر عليه الصلاة والسلام أنه شهر ترفع فيع الأعمال عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " شعبان بين رجب وشهر رمضان، تغفل الناس عنه، تُرْفع فيه أعمال العباد، فأحب  أن لا يرفع عملي إلا وأنا صائم" (صحيح الجامع) .. فأعمال العباد ترفع كل يوم وترفع يوم الاثنين والخميس وترفع أعمال السنة جميعها في شهر شعبان  ... وهو شهر يستعد فيه العباد لاستقبال شهر رمضان بتهيئة النفوس بالطاعات والعبادات .. قال سلمة بن كهيل: كان يقال شهر شعبان شهر القراء.  وقال أبو بكر البلخي: شهر رجب شهر الزرع، وشهر شعبان شهر سقي الزرع، وشهر رمضان شهر حصاد الزرع، وقال أيضا: مثل شهر رجب كالريح، ومثل شعبان مثل الغيم، ومثل رمضان مثل المطر، ومن لم يزرع ويغرس في رجب، ولم يسق في شعبان فكيف يريد أن يحصد في رمضان؟

عبـــــــــاد الله      :

في هذا الشهر ليلة عظيمة ينظر الحق سبحانه وتعالى إلى عباده فيمُنَّ عليهم بالغفران وتتنزل عليهم الرحمات  روى أبو موسى الأشعري رضي الله عنه  عن رسول الله  صلى الله عليه وسلم  قال : ( إن الله ليطّلع في ليلة النصف من شعبان فيغفر لجميع خلقه إلا لمشرك أو مشاحن ) (رواه ابن ماجة وحسنه الألباني)   فالمغفرة والرحمة في هذه الليلة لجميع عباد الله المؤمنين الموحدين إلا من يحمل صفتين الأولى خطرها عظيم على التوحيد والعقيدة وهي الشرك.. وأما الصفة الثانية التي يحرم صاحبها من عفو الله ومغفرته في هذه الليلة فهي المشاحنة والمخاصمة والعداوة بين المسلمين ..بين الآباء والأبناء وبين الجيران والإخوان وبين الأصحاب والأصدقاء وبين القبائل والأحزاب والجماعات ..  فلماذا لا يعفو بعضنا عن بعض ويسامح بعضنا بعضا ويتنازل بعضنا لبعض  و لنحذر من فساد ذات البين عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال :قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( ألا أدلكم على أفضل من درجة الصلاة و الصيام و الصدقة ؟ قالوا : بلى يا رسول الله . قال : إصلاح ذات البين فإن فساد ذات البين هي الحالقة . لا أقول : إنها تحلق الشعر و لكن تحلق الدين ) (صححه الألباني) ولنكن ممن قال الله فيهم (وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ   )   ...  والعفو خير ما ينفقه الإنسان ويتقرب به العباد يقول تعالى: (وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُالْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ) [.. ومن أراد أن يعفو الله عنه فليعفو عن خلقه فكم من خصومات بين الناس والأهل والجيران والإخوة ... وكم من قلوب ممتلئة على بعضها البعض بالحقد والغل والبغضاء والحسد فلماذا لا يسامح بعضنا بعضا ... فهل من عفو يبني به المؤمن عزاً ويرفع به قدراً لنفسه في الدنيا والآخرة ويحفظ به سلامة مجتمعة وأمنه وازدهاره ..

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما نقصت صدقة من مال، وما زاد الله عبدًا بعفوٍ إلا عزًا، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله" [رواه مسلم] .. لقد جاءتِ الآيات متضَافِرةً في ذكرِ الصفح والجمعِ بينه وبين العفو كما في قوله تعالى  (  فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ ) ، وقوله:(  فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ ) ، وقوله سبحانه:(  وَلاَ يَأْتَلِ أُوْلُوا الفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُوْلِي القُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلاَ تُحِبـُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ).

الخطــــبة الثانــية  :-

عبــــــــاد الله :

لقد جاء الإسلام ليكفكف نزوات الإيذاء والظلم والتسلط والإساءة إلى الغير ويقيم أركان المجتمع على الفضل، وحُسن التخلق والصفات النبيلة التي منها الصفح، والعفو عن الإساءة والأذى، والحلم وترك الغضب والانتصار للنفس.. والإنسان منا في حياته يلاقي كثيرا مما يؤلمه ويسمع كثيرا مما يؤذيه، ولو ترك كل واحد نفسه وشأنها لترد الإساءة بمثلها لعشنا في صراع دائم مع الناس وما استقام نظام المجتمع، وما صلحت العلاقات الاجتماعية التي تربط بين المسلمين.. فهل نستفيد من هذا الشهر ونستغل أوقاته بتصفية العقيدة والتوحيد الخالص لله ولنحافظ على العبادات ولنتزود من الطاعات فرب معصية أورثت ذلا ورب طاعة بنت عزاً ورفعت قدرا ولنحذر من الشحناء والبغضاء ولنصفي قلوبنا من الحقد والحسد وليعفو بعضنا عن بعض ولنتراحم فيما بيننا  اللهم إنا نسألك من الخير كله عاجله وآجله ما علمنا منه وما لم نعلم ونعوذ بك من الشر كله عاجله وآجله ما علمنا منه وما لم نعلم  ..  وقد أمركم ربكم فقال قولاً كريماً: ( إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً ).  اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الراشدين: أبي بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعلي ، وعن الصحابة أجمعين، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وجودك وإحسانك يا أرحم الراحمين.

خطبة بمسجد عمر حيمد بسيئون – القرن للأستاذ / سالم عبود خندور

  12 شعبان 1434هـ الموافق21/6/2013م

إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص