ثورة تونس للشيخ / عمر باعديل

الحمد للهِ الذي أذهبَ عن بلادِ تونُسَ حكماً استبدادياً طاغياً ، يحارب عبداً إذا صلى ، لا يُوقّرُّ شيخاً ولا يرحم طفلا، حارب المسجد والقرآن،وتحدث في مجلس حكمه المسمى برلمان ومن خلال وزير شؤونه الدينيةِ بأقبحِ كلامٍ حولَ الأذان، وأشهد أن لا إله إلاَّ الله وحده لا شريك له، العزيزُ القاهر، القويُ القادر، قاصمُ الجبابرةِ الظالمين وناصرُ الضعفة المظلومين،وأشهد أن سينا ونبينا وحبيبنا وقائد ربنا محمداً عبد الله ورسوله،حُوصر في الشِّعْبِ وأخْرِجَ من بلاده، ثم نصرَه ربُّه وأخضع له رقابَ أعدائه،صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليماً كثيراً.أما بعد عباد الله أوصيكم ونفسي بتقوى الله(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)أيها الأخوة الكرامُ الأحرار:- أصالةً عن نفسي ونيابةً عن كل مسلم حر, نبعثُ ومن على هذا المنبر,وفي هذا اليوم الأغر المبارك الذي نصر الله فيه الأحرار,وأذلَّ فيه كلَّ ظالمٍ غبيٍ لايفهم شعبه,أبعثُ تحيةَ إجلالٍ وإكبارٍ وإعظام إلى الشعب التونسي فأقول:لقد مدح الله الشجعانَ الأقوياءَ من أمثالكم يا أهلنا الأحرارُ في تونس فقال (وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ) وقال عمر الفاروق رضي الله عنه: يعجبني الرجل إذا سيم الخسف أن يقول بملء فيه: لا، وقال للمستبدين: متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا؟ خرجت ياشعب تونس رجالا ونساء، كبارا وصغارا، بعد أن طفح الكيل وبلغ الظلمُ مبلغه والقهرُ حده، والكبتُ منتهاه، خرجتم لا تفكرون في الموت ولا تَرهبون الرصاص ولا تخافون العواقب كما قال شاعركم أبو القاسم الشابي:

إذا الشعب يوما أراد الحياة - فلا بد أن يستجيب القدر

ولا بد لليل أن ينجلي - ولا بد للقيد أن ينكسر

ومن يتهيب صعود الجبال - يعش أبد الدهر بين الحفر

خرجتم أيها التونسيون الأبطال تقولون للظلم:لا، وتقولون للقهر:كلا،وتقولون للاستبداد: كفى، وتقولون للطغيان:انتهِ0تحيةَ إجلالٍ وشكرٍ وعرفانٍ وتقديرٍ لكل تونسيٍ وتونسيةٍ اندفعوا إلى الشارع بعد ما ذاقوا صنوف الإذلال، وتجرعوا غُصَصَ الهوان، انفجروا فجأة كما ينفجر البركان، لاالحديد يردعهم،لا السلاح يخيفهم، لا الرصاص يَهزِمهم، لا النار تَرهبُهم، لأنهم يريدون الحرية والكرامة والاستقلال والأمن.شكرا من كل أحرار العالم وعقلاء المعمورة وأشراف الدنيالكم يا أهلنا الأحرارَ في تونس فقد قزَّمتم في نفوسنا الحاكم المستبد فقد أخرجتم بثورتكم ابن علي ليقول: فهمت عليكم الآن، أصدرت أمرًا بعدم إطلاق الرصاص.لن أترشح لولاية رئاسية جديدة.لقد غالطوني وسأحاسبهم على ذلك.لقد فهمت مطالبكم وسأحقق مع المفسدين عن طريق لجنة مستقلة.سأخفض أسعار السلع الرئيسية.لكن هذه الكلمةُ جاءت في الوقت الضائع فقد رفض الله عز وجل هذه الكلمةَ من فرعون لمَّا قال بعد ما غرق: (آمَنْتُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ) ولكنها كلمة جاءت في الوقت الضائع ، فقال الله له:(آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) ياه!ما أغبى أولئك المستبدين،وما أبطأ فهمهم وإدراكهم!كان الله في عون الشعوب التي يُتسلط عليها بقوم لا يفهمون إلاَّ في الوقت الضائع!شكرً لكم ياشعب تونس الحر ومبارك لكم هذا القرار المجيد، فقد رأيتمونا سنة الله في عباده ولن تجد لسنة الله تبديلا.أيها الأخوة الأحرار إنَّ ماقام به الشعب التونسي يوجه رسالتين:الرسالة الأولى لحكام العرب وإلى كل حاكم ظالم ومفادها أن احذروا أيها السادة الحكام فإن ماحل بتونس وزعيمِها سابقاً قد يَحلُّ ببلدانكم فخذوا العبرةَ والعظة, فإنَّ اللهَ يُمهلُ ولا يُهمل وأن الله لينصر الدولةَ العادلةَ وإن كانت كافرة, ويخذل الدولةَ الظالمةَ وإن كانت مسلمة,فهل يُدرك السادةُ الذين يتحكمون في بلاد المسلمين ورقابَهم ومستقبلَ شعوبِهم أنَّ الحاكم الذكي هو الذي يَربِطُ نفسَه بشعبه ومستقبلِه بمستقبلِ أمته، فيحبهم ويحبونه، ولا يحتاج إلى تلك الجيوشِ الضخمةِ من الأجهزةِ الأمنيةِ لحماية كرسيه ونظامه وعائلته .هل رأى السادة المتحكِّمون في ثروات أمتنا ماذا فعل الرئيس البرازيلي السابق "لولا دي سيلفا"حين عَبَرَ بشعبه وأمته من السقوط الاقتصادي إلى القمة في سنوات معدودات ، فاستحق من شعبه الحبَّ والتقدير، وأصرَّ الرجلُ على مغادرة موقعه وهو يحتفظ بهذا الرصيد الهائل من الحب، بل أجمع الشعب على اختياره لخلفيته, ثقةً في سداد رأيه وتحريه الخيرَ لأمته.ولماذا نذهب غربا، وتاريخنا مليء بنماذجَ عظيمةٍ من الحكام الذين كانوا سريعي الفهم لشعوبهم ، فهذا معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه، لا يسمع بحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحكم الرشيد إلاَّ سارع لتنفيذه ، فقد أخرج أبو داود بسند صحيح أن أَبَا مَرْيَمَ الأَزْدِيَّ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى مُعَاوِيَةَ فَقَالَ: مَا أَنْعَمَنَا بِكَ أَبَا فُلاَنٍ. وَهِيَ كَلِمَةٌ تَقُولُهَا الْعَرَبُ، فَقُلْتُ: حَدِيثًا سَمِعْتُهُ أُخْبِرُكَ بِهِ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «مَنْ وَلاَّهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ شَيْئًا مِنْ أَمْرِ الْمُسْلِمِينَ فَاحْتَجَبَ دُونَ حَاجَتِهِمْ وَخَلَّتِهِمْ وَفَقْرِهِمُ احْتَجَبَ اللَّهُ عَنْهُ دُونَ حَاجَتِهِ وَخَلَّتِهِ وَفَقْرِهِ». قَالَ: فَجَعَلَ مُعَاوِيَةُ رَجُلاً عَلَى حَوَائِجِ النَّاسِ.وأخرج أبو داود أيضا  أن معاوية رضي الله عنه قال: سمعت من رسول الله صلي الله عليه وسلم كلاماً نفعني الله به، سمعته يقول:«أعرضوا عن الناس، ألم تَرَ أنك إذا اتبعتَ الريبة في الناس أفسدتهم، أو كِدْتََ أن تفسدهم»وكان يقول: إني لا أضع سيفي حيث يكفيني سوطي، ولا أضع سوطي حيث يكفيني لساني، ولو أن بيني وبين الناس شعرة ما انقطعت أبداً. فقيل له: وكيف ذلك؟ قال: كنت إذا مدوها أرخيتها، وإذا أرخوها مددتها.وخطب سعيد بن سويد بحمص، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس إن للإسلام حائطاً منيعا وبابا وثيقاً، فحائط الإسلام الحق وبابه العدل. ولا يزال الإسلام منيعاً ما اشتد السلطان.وليست شدة السلطان قتلاً بالسيف ولا ضرباً بالسوط، ولكن قضاءً بالحق وأخذاً بالعدل.فهل يعي السادة القابعون في قصور الحكم هذه المعاني فيبادروا بفهمها مبكرا قبل أن تأتي الطامة فلا يكونُ لفهمهم معنى ولا قيمة؟أيها الأحرار وأما الرسالة الثانية : فهي للشعوبِ الإسلاميةِ و العربية وكلِّ الشعوبِ الميتةِ الساكتةِ عن ظلمِ الحكام , ومفادُ الرسالة أن انتفضوا على كل حاكم ظالم فأنتم بسكوتكم من يعين الحكام على الظلم, فقومُ فرعون هم من جعله يتمادى حتى تطاول على الله فقال(أنا ربك الأعلى)و(ماعهدت لكم من إله غيري)لأنهم أطاعوه ولم يوقفوه عند حده قال تعالى( فاستخف قومه فأطاعوه) لقد أكد التونسيون في انتفاضتهم هذه للعالم كله أن إرادة الشعوب تصنع المستحيل وأن الشعوب هي وحدها من تغير لا الحكام فالشعوب الحية هكذا حالها لاترضى بالظلم والجور وتقف في وجه حكامها الظالمين وصدق أبو الأحرار الزبيري حين قال : والشعب لو كان حياً مااستخف به فرد ولاعاث فيه الظالم النهم,إن ثورة شعبنا التونسي جعلت زين العابدين يتنحى عن الحكم ويغادر البلاد إلى المملكة العربية السعودية خلسة.ورحم الله الشاعر الإسلامي الكبير محمد إقبال القائل:

شيمة المؤمن عزم وثقة             حيثما همَّ بأمر حققه

بها يسمو ويمضي قاهرًا          لا أرى اليأس إلا كافرًا

نظرة المؤمن مصباح منير        فهو بالخير وبالشر بصير

إن مهمةَ كلُّ فرد وكلُّ مؤمن في هذه الحياة لا تقف عند العبادةِ وفعلِ الخيرات، بل تتعداهما إلى معالجة مشاكل الدنيا من فساد وغيره، بل وتتعدى هذا إلى الجهاد في سبيل الله بكلّ حكمه وثبات ، والوقوفِ في وجه كل مستبد ظالم والأخذ على يديه، حتى لا يعمنا العذاب كما روى أبو داوود والترمذي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "لَتَأْمُرُنَّ بِالْمَعْرُوفِ، وَلَتَنْهَوُنَّ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَلَتَأْخُذُنَّ عَلَى يَدِ الظَّالِمِ، وَلَيَأْطِرُنَّهُ عَلَى الْحَقِّ أَطْرًا، أَوْ لَيَضْرِبَنَّ اللَّهُ قُلُوبَ بَعْضِكُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَلَيَلْعَنَنَّكُمْ كَمَا لَعَنَهُمْ". ورحم الله إمامنا الشهيد حسن البنَّاء حينما قال:لا تيأسوا فليس اليأس من أخلاق المسلمين، وحقائق اليوم أحلام الأمس، وأحلام اليوم حقائق الغد، ولا زال في الوقت متسع، ولا زالت عناصر السلام نفوس شعوبكم المؤمنة رغم طغيان مظاهر الفساد، والضعيفُ لا يظلُّ ضعيفًا طوال حياته، والقوي لا تدومُ قوتُه أبد الآبدين (وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الارْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ) بارك الله لي ولكم

الخطبة الثانية:-  أيها الأخوة الأحرار ثمة دروسٌ للأمة من ثورة تونس يجب أن يعيها كل شعبٍ يتطلع للحرية:-

أولها : الطغيان لا يدوم ، لأن مبناه على الظلم الذي هو أهم أسباب سقوط الدول وهو عكس العدل الذي هو أهم أسباب بقائها قال تعالى:" وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا "وقال عز من قائل:"وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ " وهذا العلامة ابن خلدون وهو المؤرخ العظيم قد استقرأ التاريخ فخرج بقاعدة عنون بها الفصل الثالث والأربعين من مقدمته فقال:"أن الظلم مؤذن بخراب العمران"فالظلم يثير المظلوم فيخرج ويُطالب بحقه.ثانيها : إنَّ الخيار السلمي في إنكارِ منكرِ الظلمِ, والأمرِ بمعروفِ العدل ، هو الخيار الأصلح الأسلم في هذا العصر.والأصل أن يكون في كل بلد بِحَسَبِ المتاحِ من نظمِهِ وقوانينِه بما لا يخالف شرع الله. ثالثها: إنَّ المسلم محكوم بدينه ؛ فلا يتخذ من الوسائل المحرمةِ وسيلةٌ إلى الغايات ؛ وكم كان مؤسفا أن يقوم عدد من مواطني بعض البلاد العربية بإحراق أنفسهم،اقتداء بما جرى للشاب التونسي الذي أحرق نفسه لما لقيه من قهر وحنق،وربما قام بذلك جهلاً منه بالحكم الشرعي الذي يُجرّمُ الانتحار فكيف إذا أضيف إليه جرم آخر هو : الحرق بالنار ؛ وعلى كل حال ، فأمره إلى الله ، ولا نملك إلا أن نقول : رحمه الله ! وعلى كل حال ، فقد صحح الشعب التونسي الوسيلة،فانتقلوا إلى إحراق الطاغية بدل إحراق أنفسهم وذلك من خلال التظاهر السلمي المسموحِ به ولو شكليا في النظم التي تزعم الديمقراطية.رابعها:أنَّ التيارات والأحزاب ، ينبغي أن تكون على وعي بخطورة الفراغ السياسي؛ فيجب لزعاماتهم على اختلاف مشاربهم أن يقدموا مصلحة وحدة المجتمع وسلامة الوطن على كل مصلحة شخصية أو حزبية ؛ فيدركوا خطورة الفراغ ويسارعوا بملئه بما يحفظ وحدة المجتمع ومكتسبات الأمة . وقد أشار الفقيه السياسي الكبير إمام الحرمين الجويني إلى أن على العلماء أن لا يسمحوا بوجود الفراغ السياسي الذي يؤدي للفتنة.وأن عليهم أن يقوموا بواجبهم في الحفاظ على الأمة في المرحلة الانتقالية ، درءاً للفتنة ، حتى تتحد الأمة ، وتأمن الفساد والخراب والتفكك .خامسها :يالخسران من مُكِّن من حكم بلد ثم لم يكن حكمه له سببا لدخوله الجنة فيا لخسارة من حكم شعبه بغير العدل الإسلامي ، وفوَّت على نفسه فرصة نشر الإسلام والدعوة إليه.ولقد أخذ بي التفكير مأخذه،وأنا أتأمل حالَ طاغيةُ تونس وقد مُكِّنَ من حكمها ما يقارب ربع قرن،وقد ظن أن حصونه مانعته من الله ، فأتاه الله من حيث لم يحتسب ؛ فغادر حكمه هاربا تعيسا بئيسا مطرودا مذموما عند شهداءَ الله في أرضه، ولم يُؤثر عنه غير السوءِ ومحاربةُ عبادَ الله من خلال زبانيته ..فهل يعي بقية الحكام الذين يسيرون ذات السيرةِ السيئةِ قبل أن يغادروا مناصبهم بطرد أو هلاك؟!فإنَّ الثورات الشعبية كالزلازل ، لا يمكن التنبؤ بوقوعها ، فهنيئا لمن وفقه الله فاستعمله في نصرة دينه ، ويا خسارة من مكنه الله من العمل فلم يعمل.نسأل الله تعالى أن يبرم لأمة الإسلام أمر رشد يعز فيها أهل طاعته ويخذل فيها أهل معصيته, ويُؤمر فيه بالمعروف ويُنهى فيه عن المنكر, إنه سميعٌ مجيب الدعاء .  وصلوا وسلموا....

*ثورة تونس خطبة الجمعة في جامع الخير بتريم / للشيخ عمر باعديل بتاريخ 17/2/1432هـ - 21/1/2011م

إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص