فتوى علماء السلطة للاستاذ / صالح كرامه الدقيل

الحمد لله ...

أيها الإخوة المؤمنون :

إنه غير خاف على كل مسلم أن للعلماء منزلة رفيعة ، ومكانة عالية ، ما لا يزاحمهم فيها غيرهم من أصناف الناس ، ففضائلهم في الكتاب والسنة مشهورة ، ومناقبهم فيها منثورة .. قال سفيان ابن عيينة : أرفع الناس منزلة من كان بين الله وبين عباده ، وهم الأنبياء والعلماء ، فالعلماء خلفاء الرسل في أممهم ، يحتاج إليهم الصغير والكبير ، الذكر والأنثى ، الحاكم والمحكوم ..

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (العلماء ورثة الأنبياء ، وان الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً إنما ورثوا العلم ،  فمن أخذه أخذ بحظ وافر) .. وإن العلماء وقد رفعهم الله درجات ،  وجعلهم ورثة الأنبياء ، فإن كلامهم مسئولية لا تعدلها مسئولية.. ففيه النفع إن استقاموا على الحق ، كما أن فيه الخطورة والإثم والعقاب في الدنيا والآخرة إن هم مالوا عن الحق .. وإن العقوبة تلحق بمن انحرف منهم وقال ما يعلم أنه باطل لغرض من الدنيا حقير أياً كان هذا الغرض ،  ونذكر هنا بقول الحق جل في علاه : (واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين * ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا فاقصص القصص لعلهم يتفكرون) .

وإن زلة العالم كالسفينة تغرق ويغرق معها خلق كثير ..

وإن واجبهم الأول بيان الحق للناس واضحاً جلياً لا لبس فيه ، دون مراعاة لأحد ، ولا تأخذهم في الله لومة لائم : (وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه) فإن بينوا فلهم عظيم الأجر وإن حادوا عن ذلك الطريق وكتموا ما يعلمون من الحق مجاملة لحاكم أو سلطان أو صاحب نفوذ ، حاقت بهم اللعنة والعذاب .. قال تعالى : (إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يعلنهم الله ويلعنهم اللاعنون * إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا فأولئك أتوب عليهم وأنا التواب الرحيم) وقال عز وجل : (إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب ويشترون به ثمناً قليلاً أولئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار ولا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم) ..

أيها الإخوة الكرام :

إن العلماء الربانيين لابد أن يكونوا هم قادة الأمة إلى طريق الحق ، وإن حركات الإصلاح في حياة الأمة لابد أن يتولاها ويأخذ بيدها العلماء ، ولو تأملنا مراحل التغيير وحركات الإصلاح في العالم الإسلامي لوجدنا أن العلماء الربانيين المخلصين كانوا في مقدمتها ، وخاصة في الدول الإسلامية التي وقعت في فترة ما من تاريخها تحت الاستعمار الغربي ، نجد أن الذي قاوم الاستعمار وأيقظ روح الجهاد وتحرير البلاد هم العلماء العاملون .. ففي الجزائر كان في مقدمة المقاومين للاستعمار الفرنسي الشيخ / عبدالقادر الجزائري ، وفي المغرب الشيخ المجاهد / عبدالكريم الخطابي وفي ليبيا كان زعيم المجاهدين ضد الاستعمار الإيطالي هو الشيخ المجاهد / عمر المختار ، وعندما تقوم المحن يظهر دور العلماء فيقوم المخلصون منهم بالبيان للناس والصدع بالحق .

أيها الإخوة الأفاضل :

لقد ذكر لنا التاريخ الإسلامي كيف كان العلماء يضطلعون بدورهم في تبصير الأمة ومواجهة الباطل والوقوف في وجه الطغاة من الحكام المستبدين فها هو سلطان العلماء العز ابن عبدالسلام يصدع بكلمة الحق في وجه الحكام الظلمة ولا يخشى في الله لومة لائم .. حيث تروي لنا كتب التاريخ موقفاً عظيماً لهذا العالم الجليل ، فقد طلع العز ابن عبدالسلام في يوم عيد إلى القلعة حيث شاهد السلطان فيها والعساكر مصطفين بين يديه ، وكان السلطان في أبهته وقد خرج على قومه في زينته على عادة السلاطين في مصر وحوله الخدم والحشم ، والأمراء تقبل الأرض بين يديه ، فالتفت الشيخ إلى السلطان وناداه : (يا أيوب) ما حجتك عند الله إذا قال لك : ألم أبوئ لك ملك مصر ثم تبيح الخمور ؟ فقال السلطان : وهل جرى هذا ؟ فقال : نعم، الحانة الفلانية تباع فيه الخمور ، وغيرها من المنكرات ، وأنت تتقلب في نعمة هذا المملكة.. فأمر السلطان على الفور بإغلاقها ..

وهذا هو إمام أهل السنة الإمام أحمد عليه رحمة الله ، وقف موقفاً عظيماً وثبت ثباتاً قوياً في فتنة القول بخلق القرآن ، التي اعتقد بها الخليفة المأمون وطلب من ولاته في الأمصار عزل القضاة الذين لا يقولون بهذا الرأي ، واستجاب له كثير من العلماء والقضاة ممن ضعفت عزيمتهم.. واستمر الإمام أحمد ونفر قليل على حمل راية السنة ، فأوذي الإمام أحمد وعذب ، ولكن ما حاد عن موقفه ذلك ، وأحضروا له الفقهاء والقضاة فناظروه ، فأظهر عليهم الحجج القاطعة ، فضربوه وأوثقوه وسجنوه والإمام أحمد ثابت على مبدئه لم يلين لحاكم مستبد ، ولم يتنازل عن دينه بعرض من الدنيا قليل ، بل ظل يردد ويقول : القرآن كلام الله قديم غير مخلوق، وظل الإمام ثابتاً صابراً حتى تولى الخلافة الخليفة (المتوكل) الذي خالف ما كان عليه من قبله ، وأنكر عليهم ما كانوا يقولونه، وأمر بإظهار الرواية والحديث، فأظهر الله به السنة ، وأمات به البدعة ، وكشف عن الخلق تلك النعمة ..

وفي عصرنا الحديث تجلت عظمة العلماء في مواقف كثيرة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ورفضهم تأييد الحكام الطغاة والظلمة ، ومن أبرز هؤلاء صاحب الظلال الشهيد / سيد قطب عليه رحمة الله الذي أفنى حياته خدمة للقرآن ، ومدافعاً عن تحكيم الشريعة الإسلامية ، وتعرض بسبب آرائه تلك للسجن والتعذيب، وانتهى به الأمر إلى أن أعدم شنقاً ، ضحى بحياته كلها ولم يرضخ للطغاة والمستبدين ، وقبل أن ينفذ فيه حكم الإعدام ، أرسلوا له من يطلب منه أن يكتب كلمات يؤيد بها الحاكم مقابل أن يعفو عنه ، فماذا قال هذا الرجل المجاهد .. قال بشجاعة المؤمن : (إن إصبع السبابة التي تشهد لله بالوحدانية في كل صلاة ترفض أن تكتب حرفاً واحداً تقر به حكم طاغية) .. ثم طلبوا منه أن يسترحم النظام ويطلب منهم العفو والرحمة ، فقال : (لماذا أسترحم ؟ إن كنت محكوماً بحق فأنا أرتضي حكم الحق ، وإن كنت محكوماً بباطل فأنا أكبر من أن أسترحم الباطل) .. وأضاف يطمئنهم : إن كان العمر قد انتهى سينفذ حكم الإعدام ، وإن لم يكن العمر قد انتهى فلن ينفذ حكم الإعدام ، ولن يغني عني الاعتذار شيئاً في تقديم الأجل أو تأخيره .

يا الله .. حل المشنقة يلوح أمام ناظريه ، ولا تهتز أوصاله ، ولا يضطرب موقفه ، ولا يتراجع عن كلمته ، إنها قمة الثبات على القيم والمبادئ ، إنها الطمأنينة التي سكبها الإيمان بالله في أعماقه .. فأين علماء السلطان ؟ وأين من ذلك علماء الحكام الذين يفصلون الفتاوى على مقاس الحاكم كما يفصل له الخياط ملابسه .

أيها الإخوة المؤمنون :

إنها لمن أعظم المصائب أن يجتمع ما يسمى بـ (جمعية علماء اليمن) في صنعاء بطلب من السلطة ، ويصدرون بياناً يؤيدون فيه الحاكم ، ويعتبرون مطالب الشعب خروجاً على الحاكم ، ويحرمون المسيرات والمظاهرات .. بيان استنكره كل العقلاء ، وكل المصلحين.. استنكره سائر العلماء المخلصين ، وأدانه كبار علماء المسلمين وخطأه الأزهر الشريف.. وفي هذا المجال نذكر الملاحظات التالية :

أولاً : إن هذا البيان أعطى الغطاء لارتكاب مزيد من الجرائم والقتل بحق أبناء الشعب اليمني، وكان الأولى بمن سموا أنفسهم علماء اليمن أن يحذروا من التمادي في سفك الدماء ، ويحذروا من الاستخفاف بالقتل ، وإزهاق الأنفس البريئة ، وبالتالي فإن من أصدروا ذلك البيان يتحملون تبعات هذه الجريمة باعتبارهم شركاء فيها .

ثانياً : إن من أجتمعوا هؤلاء لا يمثلون علماء اليمن، ولا يحق لهم أن يتحدثوا باسم علماء اليمن ، حيث امتنع عدد كبير من علماء اليمن المعتبرين ، ومن تم جمعهم هم مجموعة من طلاب العلم، قليلي البضاعة في العلم الشرعي .

ثالثاً : أين كان هؤلاء من سمو أنفسهم بالعلماء عندما نهبت خيرات اليمن وبددت ثرواته ، وبيع غازه بأبخس الأثمان؟ أين كان هؤلاء يوم أن تم التضييق على المواطن في حياته ومعيشته ، ورفعت الأسعار ، وتجرع الجرعات الواحدة تلو الأخرى ؟ لماذا لم يتحدث هؤلاء عندما قتل الشباب بالعشرات بل المئات ، وضربوا بالأسلحة الخفيفة والثقيلة ، لم نسمع لهم صوتاً ولم نسمع لهم بياناً ولا استنكاراً ..

كنا نريد أن يجتمع العلماء ويصدرون بياناً وفتوى في حكم العقوبات الجماعية على الناس سوم أن تعطلت مصالحهم، وتم التضييق عليهم في حياتهم وأرزاقهم ومعاشهم، وقطع الكهرباء والبنزين عنهم .. أين من سموا أنفسهم (جمعية علماء اليمن) مما يحدث في أبين وتعز وصنعاء من قصف بالطائرات على بيوت ومنازل ، صار أصحابها من نساء وأطفال نزلاء بالكهوف والمغارات ..

أقول ما سمعتم ....

الخطبة الثانية :

الحمد لله ...

أيها الإخوة المؤمنون :

يا علماء الدين ** يا ملح البلد

 

من يصلح الملح ** إذا الملح فسد

واعلموا أنه لا يجوز أن يشتري العلماء بآيات ثمناً قليلاً ، وعليهم أن يتحملوا مسئولية العلم وأمانة الكلمة ، وأن الله أخذ من العلماء ميثاقاً : (لتبيننه للناس ولا تكتمونه)، فعليهم أن يأخذوا بميزان النبوة ، وأن ينصحوا لله ولرسوله ولكتابه ولأئمة المسلمين وعامتهم، بل إن أحق الناس بالنصح هم الحكام وخاصة في الظروف التي تعيشها البلاد العربية واليمنية .

وأنه لا يجوز للعالم أن يكون إمام سلطة ، ولكن إمام دين وملة ..

أيها الإخوة الفاضل :

الإسلام دين الحرية ، ودين العدل ينهى عن الظلم، ويتوعد الظالمين .. جاء الإسلام ليحرر العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد .. يرفض الإسلام كل شكل من أشكال الظلم !؟ فكيف يظهر اليوم من يدعي العلم ليجعل الناس عبيداً للرؤساء والزعماء، ويطالب الناس بالطاعة لهم وإن نهبوا ، وإن قتلوا ، وإن سفكوا.. يا سبحان الله .. هل هذا هو مبدأ الإسلام ؟ هل يرضى الإسلام بالظلم لأتباعه ؟ وأصبح من يسمون بالعلماء يدعون الناس إلى دين ممسوخ مشوه لا تصلح عليه أمة، ولا تستقيم عليه ملة .

هذه الأفكار جرت على العالم الإسلامي التخلف والانحطاط ، وأدت إلى إشاعة الظلم والفساد، وتسلط عصابات إجرامية عائلية لها سدنة من علماء السلطة الذين يلوون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب وما هو من الكتاب ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون .

ولم يكن هذا الإنحراف والانحطاط بسبب الدين وإنما بسبب التأويل الفاسد والتحريف الكاسد .

أيها الإخوة الأعزاء :

لقد أتاح الإسلام للمسلم أن لا يسكت على الظلم إذا وقع عليه ، وأن يسعى لرفع هذا الظلم، فقال تعالى : (والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون) فبدل علماء السوء قولاً غير الذي قيل لهم، وقالوا لا لا تتكلم، لا تطالب بحقك ممن ظلمك ، اسكت واصبر على الظالم وإن جلد ظهرك وأخذ مالك .. يا سبحان الله .. هل هذا هو دين العدل ؟

وبعد ذلك أكد القرآن الكريم أن المظلوم إذا انتصر لظلمه فلا لوم عليه ، قال تعالى : (ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل).. بل وأجاز الإسلام له أكثر من ذلك ، بأن يقول ما في نفسه ويهتف بأعلى صوته ولو جهراً يجوب الشوارع ما دام مظلوماً.. قال عز وجل (لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم وكان الله سميعاً عليماً)

وصلوا وسلموا .. 

فتوى علماء السلطة للاستاذ / صالح كرامه الدقيل بمسجد عمر حيمد بسيئون حي القرن

الجمعة 9/ذوالقعدة/1432هـ - 7 أكتوبر 2011م

شاهد (فيديو)

إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص