المتفائلون يصنعون الحياة

عبــــــاد الله :  

مع صخب الحياة ومتطلباتها ومشاكلها وضعف الوازع الديني و فساد القيم والأخلاق في نفوس الكثير من الناس والتنافس على الدنيا ونسيان الآخرة .. ومع كثرة النزاعات والفتن والحروب التي تعصف بالدول والشعوب والمجتمعات .. ومع تعدد الكوارث والحوادث ومع حلول الأمراض والأوبئة. يتساءل المرء إلى متى يعيش الإنسان هكذا حياة ؟ وهل لهذه المشاكل والابتلاءات من نهاية؟ وكيف يمكن للإنسان أن يعيش في ظل هذه الأوضاع بنفس مطمئنة  وكيف يستطيع أن يتجاوزها ويخرج منها وقد حفظ دينه وأمانته وأخلاقه وقام بما عليه من واجبات ؟ وكيف يستطيع الإنسان أن يمنع اليأس والتشاؤم من أن يصل إلى حياته ؟ وهل يجب أن نتفاءل ونستبشر بقدوم الفرج وتبدل الأحوال وتغير الظروف وزوال الغمة وحلول النعمة رغم ما يحيط بنا  وما يظهر لنا وما ينزل بساحتنا وحياتنا من مصائب وابتلاءات ؟ .. وما هي القوة التي يجب أن نلجأ إليها ونثق بها ونستمد منها العون والمدد والنصر ونطلب منها تبديل الأحوال وتغيير الظروف ؟ ..  ومن خلال هذه التساؤلات التي تجول بخواطرنا وأصبحت جزء من همومنا ومن خلال القرآن الكريم والسنة النبوية والواقع وأحداث الزمان ومسيرة الأفراد والمجتمعات والشعوب أقول أن هذه الدنيا جبلت على كدر .. يقول سبحانه : { لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ } ، أي : في مكابدة و معاناة منذ مولده في دارٍ كلّها بلاء و عناء و كدر ، أحسن في وصفها الإمام علي رضي الله عنه لمن سأله عنها فقال : دار أولها بكاء و أوسطها عناء و آخرها فناء ..

وقال تعالى( وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ }.. و قال سبحانه و هو أصدق القائلين{ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَ لَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَ الضَّرَّاءُ وَ زُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ  ومع ذلك فإنه ينبغي للمسلم أن يدرك طبيعة الحياة وعليه أن يستعين بمن خلقها وأوجدها وهو المولى سبحانه وتعالى فيقوي إيمانه و يؤدي ما افترضه عليه ويبذل من الأسباب ما يستطيع ويكون عنده أمل ويقين بأن الله يبتليه بالضراء وهو أرحم به من نفسه وأنه هو القادر على كشف الضر ودفع البلاء وتبديل الأحوال و ما من شيء يقع أو يحدث في الأرض أو في السماء إلا بأمره سبحانه وتعالى القائل ( وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ  وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ  وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ). وأن هذه الحياة إلى زوال وأن الآخرة خير وأبقى وأن سعادة الدنيا رغم ما فيها لا يحصل عليها العبد إلا بإيمان صادق وعمل خالص .. وهذه القيم والمفاهيم والمعاني تغيب على الكثير بسبب ضعف الإيمان و مع قوة البلاء وكثرة الفتن وضيق الحال يكون السقوط في فتنة هي أعظم وأشد قال تعالى : (وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ)

أيها المؤمنون /عبــاد الله :

   إن على الإنسان أن يتفاءل بالخير مهما كانت الظروف فسواد الليل يأتي بعده ضياء الصباح وإن البرق والرعد مهما كانت شدته وخاف الناس من سطوته فإنه يأتي محملاً بالأمطار والخير ...

ُلما جاءت إبراهيم عليه السلام البشرى بالولد في سنٍ كبير أبدى تعجبه فقال: (قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِي الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ) فماذا كان جوابهم: (قالوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنْ الْقَانِطِينَ قال وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ)

ويعقوب عليه السلام وقد فقد ولديه وبصره أربعين عاماً وما زال أمله بالله أن يردهما إليه وأن يجمعهما به فكان يوصى أبنائه قائلاً لهم: {يَا بَنِيَّ اذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ }

وحقق الله أمل يعقوب ورجاءه، وَرَدَّ عليه بصره وولديه .. لم يتطرق اليأس إلى قلبه لحظة واحدة لأن قلبه موصول بالله متوكلٌ عليه واثقٌ من قدرته ورحمته ..  وهذا موسى عليه السلام وقومه وقد تبعهم فرعون وجنوده حتى إذا وصلوا إلى شاطئ البحر وفرعون من خلفهم قال اليائسون والمتشائمون { إِنَّا لَمُدْرَكُونَ } فقال لهم نبي الله موسى عليه السلام في ثقة وتفاؤل ويقين يريد أن يصنع حياتهم ومستقبلهم من جديد : {قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ } فأمره الله سبحانه أن يضرب بعصاه البحر، فانشق نصفين وكان كل فرق كالطود العظيم ومشى مع قومه في طريقٍ يبسا .. قال تعالى(  وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ)) فما بعد العسر إلا يسرا وما بعد الكرب إلا فرجا وما بعد الضيق إلا سعةً قال تعالى (حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنْ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ) .. حتى إذا بلغ اليأس مداه عادت الحياة وجاء الفرج منه سبحانه.

عبــــــــاد الله :

   إن التفاؤل يدفع الإنسان لتجاوز المحن، ويحفزه للعمل، ويورثه طمأنينة النفس وراحة القلب والمتفائل لا يبني من المصيبة سجناً يحبس فيه نفسه، لكنه يتطلع للفرج الذي يعقب كل ضيق، ولليسر الذي يتبع كل عسر .. لقد كان نبينا -صلى الله عليه وسلم- إماماً في التفاؤل والثقة بوعد الله تعالى وكان يحارب اليأس والتشاؤم ويصنع الحياة ويزرع الأمل مهما كانت الظروف   والمتأمّل في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم  يجد ذلك .. يخاطب صلى الله عليه وسلم يوماً عدي بن حاتم يبشّره ويقول كما روى بن هشام في سيرته : (لعلّك ـ يا عديّ ـ إنما يمنعك من الدخول في هذا الدين ما ترى من حاجتهم (أي حاجة المسلمين وفقرهم)  فو الله ليوشكنّ المال أن يفيض فيهم حتى لا يوجد من يأخذه، ولعلّك إنما يمنعك من الدخول فيه ما ترى من كثرة عدوّهم وقلّة عددهم، فو الله ليوشكنّ أن تسمع بالمرأة تخرج من القادسية على بعيرها حتى تزور البيت لا تخاف، ولعلك إنما يمنعك من الدخول أنك ترى الملك والسلطان في غيرهم، وايمُ الله ليوشكنّ أن تسمع بالقصور البيض من أرض بابل قد فتحت عليهم))، قال عديّ: فأسلمت) .. بل عندما هاجر صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وقد أرسلت في طلبه قريش و قد أباحت دمه وهو في الصحراء لا طعام ولا شراب والموت يترصده في أي لحظة فإذا بسراقة بن مالك أحد فرسان قريش خلفه قد غاصت قدما فرسه في التراب فينظر إليه رسول صلى الله عليه وسلم قائلاً له بكل ثقة وتفاؤل:{ يا سراقة لم تصنع هذا؟ قَالَ: إن قريشاً قد وعدوني بكذا من الإبل، قَالَ: (أوليس لك بخير منها؟ قَالَ: وما هما، قَالَ: سواري  كسرى} (البخاري ومسلم ().

أيها المؤمنون /عبــــــــاد الله

   لقد سلك الإسلام كل سبيل في غرس روح التفاؤل بالخير في المجتمع المسلم فأمرنا صلى الله عليه وسلم بأن نلقى إخواننا بوجه طلق حتى نشيع في المجتمع روح التفاؤل والأمل , عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم(كُلُّ مَعْرُوفٍ صَدَقَةٌ ، وَإِنَّ مِنَ الْمَعْرُوفِ أَنْ تَلْقَى أَخَاكَ بِوَجْهٍ طَلْقٍ ، وَأَنْ تُفْرِغَ مِنْ دَلْوِكَ في إِنَاءِ أَخِيكَ)

.. كما أمرنا بإفشاء السلام بيننا حتى تسود المحبة والألفة , عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم(وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لاَ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا ، وَلاَ تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا ، أَوَلاَ أَدُلُّكُمْ عَلَى شَيْءٍ إِذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ ؟ أَفْشُوا السَّلاَمَ بَيْنَكُمْ.) .. وفي حديث الأنصاري الذي لزم المسجد حزيناً من كثرة همومه وديونه , أرشده النبي صلى الله عليه وسلم إلى استبدال اليأس بالأمل والتفاؤل, وأن عليه أن يترك اليأس والتشاؤم ويحسن التوكل على الله تعالى , عَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ قَالَ:دَخَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ يَوْمٍ الْمَسْجِدَ فَإِذَا هُوَ بِرَجُلٍ مِنَ الأَنْصَارِ يُقَالُ لَهُ : أَبُو أُمَامَةَ فَقَالَ « يَا أَبَا أُمَامَةَ مَا لِي أَرَاكَ جَالِسًا فِي الْمَسْجِدِ فِي غَيْرِ وَقْتِ الصَّلاَةِ ». قَالَ هُمُومٌ لَزِمَتْنِى وَدُيُونٌ يَا رَسُولَ اللهِ. قَالَ : أَفَلاَ أُعَلِّمُكَ كَلاَمًا إِذَا أَنْتَ قُلْتَهُ أَذْهَبَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَمَّكَ وَقَضَى عَنْكَ دَيْنَكَ ». قَالَ قُلْتُ بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ. قَالَ « قُلْ إِذَا أَصْبَحْتَ وَإِذَا أَمْسَيْتَ اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْهَمِّ وَالْحَزَنِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ الْعَجْزِ وَالْكَسَلِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ الْجُبْنِ وَالْبُخْلِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ غَلَبَةِ الدَّيْنِ وَقَهْرِ الرِّجَالِ ». قَالَ فَفَعَلْتُ ذَلِكَ فَأَذْهَ بَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَمِّى وَقَضَى عَنِّى دَيْنِى)

.. اللهم أهد قلوبنا وزينها بالإيمان والتقوى .. قلت قولي هَذا، وأستغفر الله  لي ولكم فاستغفروه.

الخطــــبة الثانــية  :

  إن للتفاؤل ثمرات في حياة الإنسان مهما كانت الظروف والأحوال فبه تتجدد الحياة ويزيد الإنتاج والعطاء وبه يتغلب المرء على المعوقات والصعاب وهو طريق للتوبة والرجوع إلى الله وترك الذنوب والمعاصي والسيئات  قال تعالى(قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)  والتفاؤل يبعث في النفوس الراحة والطمأنينة فلا يخاف المؤمن على رزقه ولا يخشى من أجله قال تعالى( وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابا مؤجلا ...) والتفاؤل يدفع المؤمن ليحسن الظن بالله ويوجهه ليصنع من المحنة منحة و من الكرب والعسر والضيق طريقاً وسبيلاً للبحث عن الفرج واليسر والخلاص. .. فثقوا بالله وأملوا به وتفاءلوا بالخير تجدوه واصنعوا الحياة من حولكم بالتفاؤل  ولا تكونوا معول هدم ولا سبب في تقنيط الناس من رحمة الله وقدرته وابذروا الخير والأمل واعملوا على تآلف القلوب واجتماع الصفوف .. فمن يدري؟ ربما كانت هذه المصائب الفتن والابتلاءات باباً إلى خير مجهول، ورب محنة في طيها منحة، يقول سبحانه ( وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ)..   فقد مرت الأمة بأزمات وفتن وابتليت بمصائب فدفع الله عنها ذلك وحفظها من كل سوء وبعث فيها الحياة من جديد عندما عادت إليه وصدقت في حمل دينه واتباع رسوله صلى الله عليه وسلم  .. ومهما خطط البشر ومهما بلغ كيدهم ومكرهم فإن الله من ورائهم محيط ولا يكون إلا ما يريد قال تعالى {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ}. .. فاللهم اجعل لنا من كل هم فرجا ومن كل ضيق مخرجا ومن كل عسر يسرا ومن كل بلاء عافية ... اللهم احقن دمائنا واحفظ بلادنا وألف بين قلوبنا .. ومن أرادنا أو أراد بلادنا بسوء أو مكروه فرد كيده في نحره واجعل تدبيره تدميراً عليه .. هذا وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله و أصحابه الطيبين الطاهرين والحمد لله رب العالمين  .

خطبة جمعة 16/5/1434هـ  الموافق26/4/2013م

للأستاذ / سالم عبود حندور بمسجد عمر حيمد بسيئون / القرن

إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص