ربانيون لا رمضانيون

ما أشبه الليلة بالبارحة ؛ هذه الأيام تمرُّ سريعاً كأنها لحظات ، لقد استقبلنا رمضان الماضي ، ثم ودعناه ، وما هي إلا أشهر مرَّت كساعات، فإذا بنا نستقبل رمضان آخر، وكم عرفنا من أقوام ؛ أدركوا معنا رمضان أعواماً ، وهم اليوم من سكان القبور، ينتظرون البعث والنشور، وربما يكون رمضان هذا لبعضنا آخر رمضان يصومه.

 

إن إدراكنا لرمضان نعمة ربانية ، ومنحة إلهية ، فهو بشرى تساقطت لها الدمعات ، وانسكبت منها العبرات: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ}، وجاء في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((قَدْ جَاءَكُمْ شَهْرُ رَمَضَانَ ، شَهْرٌ مُبَارَكٌ ، افْتَرَضَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ صِيَامَهُ ، يُفْتَحُ فِيهِ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ ، وَيُغْلَقُ فِيهِ أَبْوَابُ الْجَحِيمِ ، وَتُغَلُّ فِيهِ الشَّيَاطِينُ ، فِيهِ لَيْلَةٌ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ، مَنْ حُرِمَ خَيْرَهَا فَقَدْ حُرِمَ))، وفي الحديث عنه أيضاً - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا دخل رمضان فتحت أبواب الرحمة، وغلقت أبواب جهنم ، وسلسلت الشياطين ، وفتحت أبواب الجنة)).

في هذا الشهر تضاعف الحسنات ، وتكفَّر السيئات ، وتُقال العثرات ، وترفع الدرجات ، وتفتح الجنات ، وتغلق النيران، وتصفد الشياطين.

وهذا الشهر جعل الله فيه من الأعمال جليلُها ، ومن الأجور عظيمُها فجاء في الحديث عنه - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إِذَا كَانَ أَوَّلُ لَيْلَةٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ صُفِّدَتِ الشَّيَاطِينُ وَمَرَدَةُ الْجِنِّ ، وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ النَّارِ فَلَمْ يُفْتَحْ مِنْهَا بَابٌ ، وَفُتِّحَتْ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ فَلَمْ يُغْلَقْ مِنْهَا بَابٌ ، وَيُنَادِي مُنَادٍ: يَا بَاغِيَ الْخَيْرِ أَقْبِلْ ، وَيَا بَاغِيَ الشَّرِّ أَقْصِرْ، وَلِلَّهِ عُتَقَاءُ مِنَ النَّارِ، وَذَلكَ كُلُّ لَيْلَةٍ)).

لذا كان الصالحون يعدُّون إدراك رمضان من أكبر النعم يقول المعلى بن الفضل: "كان السلف يدعون الله ستة أشهر أن يبلِّغهم رمضان"، وقال يحيى بن أبي كثير: "كان من دعائهم: اللهم سلمني إلى رمضان ، وسلِّم لي رمضان ، وتسلَّمه مني متقبلاً"، وكان رمضان يدخل عليهم وهم ينتظرونه ويترقبونه ، ويتهيئون له بالصلاة والصيام ، والصدقة والقيام ، قد أسهروا له ليلهم ، وأظمئوا نهارهم ، فهو أيام مَّعْدُوداتٍ.

 

ولو تأملت حالهم لوجدتهم بين باك غُلب بعبرته ، وقائم غُصَّ بزفرته ، وساجدٍ يتباكى بدعوته ، ولقد كان رمضان يدخل على أقوام صدق فيهم قول الله: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}، فكانوا ربانيين لا رمضانيين ؛ هم في صيام وقيام في رمضان وفي غير رمضان.

 

باع رجل من الصالحين جارية لأحد الناس ، فلما أقبل رمضان أخذ سيدها الجديد يتهيأ بألوان الطعام ، فقالت الجارية: لماذا تصنعون ذلك؟ قالوا: لاستقبال الصيام في شهر رمضان ، فقالت: وأنتم لا تصومون إلاّ في رمضان؟! والله لقد جئت من عند قوم السنة عندهم كلها رمضان ، لا حاجة لي فيكم ، ردوني إليهم ، ورجعت إلى سيدها الأول.

 

ولقد كانوا يدركون الحكمة من شرعية الصيام ؛ فالصوم لم يشرعْ عبثاً ، فالقضية ليستْ قضية ترك طعام أو شراب، بل القضيةُ أكبرُ من ذلك بكثير، فقد شُرع ليعلمَ الإنسان أن له رباً يشرعُ الصومَ متى شاء ، ويبيحُ الفطرَ متى شاء ، ويحكم ما يشاء ويختار، فيخشاه ويتقيه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}، نعم {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}، والتقوى خشيةٌ مستمرة ، هي: الخوفُ من الجليل ، والعملُ بالتنزيلُ ، والقناعةُ بالقليل ، والاستعدادُ ليوم الرحيل

خل الذنوب صغيـــرها***وكبيرها ذاك التقى

واصنع كماش فوق أرض*** الشوك يحـذر ما يرى

لا تحقـــرن صغيرةً ***إن الجبـالَ من الحصى

 

ومن حقق التقوى شعر بأن حياته كلَّها ملك لله - تعالى - يفعل بها ما يشاء ، فهو يصلي وقت الصلاة ، ويصوم وقت الصوم ، ويجاهد في الجهاد ، ويتصدق مع المتصدقين ، فليس لنفسه منه حظ ولا نصيب ، بل حياته كلها وقف لله - تعالى -، وبالتالي تكون جميع أيامه رمضان يعمرها بطاعة الله ، ويبتعد فيها عن معصية الله.

ولربما فهم بعض الناس من أحاديث الفضائل في رمضان أن العبادة والطاعة لا تكون إلا في رمضان فقط ، وأن صيام رمضان يكفر كل المعاصي صغيرها وكبيرها وموبقها ، وهذا الفهم خاطئ ؛ إذ الأصل في المسلم الاستمرار في العبادة في كل أيامه ، وزيادتها في مواسم الخير لاغتنام فضائلها.

فلنكن مستمرين في طاعة ربنا خلال رمضان وغير رمضان ، ولنكن ربانيين لا رمضانيين فإن رب رمضان هو رب جميع الأشهر، وإذا ما عملنا عملاً ولو كان قليلاً فلنستمر عليه ، ولنثبت في فعله ، فإن ذلك مما يحبه الله ، وهو هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - فقد كان إذا عمل عملاً أثبته.

جعلنا الله وإياكم ممن يستمرون على طاعة الله في كل شأن من شؤون حياتهم ، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص