الركود والتخلف والضعف والفساد الذي جثم على عالمنا العربي خلال نصف القرن المنصرم, جعل الثورة على ذلك الواقع ضرورة وحاجة لإعادة الاعتبار لشعوبنا وأوطاننا, بعد أن حوّلتها الأنظمة الحاكمة كَلاًّ مهملاً لا كرامة لمواطنيها في الداخل ولا وزن لها في الخارج !!
فمصر مثلاً – منذ خمسين عاماً - كان يجب أن تواكب مثيلاتها في النهضة الحديثة: كوريا الجنوبية وماليزيا وتركيا والبرازيل, وكان يجب أن لا تتخلف في الصناعة والتقنية عن اليابان والهند والصين, فالإنسان في تلك الدول لم يعد عبئاً ومشكلة, بل أصبح ثروة ترفد الاقتصاد وتبني البلاد وتمنح القوة, وتنشر المعرفة, بينما ظل النظام المصري يشكو من الانفجار السكاني بدلاً من التفكير في تفجير طاقاته.. .
مصر أكبر الدول العربية ليس من حيث عدد السكان فحسب, بل موقع مصر وتاريخها وتأثيرها السياسي والثقافي يعطي هذا البلد مركز الريادة كاستحقاق طبيعي, غير أن الاستبداد والفساد وحرص الأنظمة على التّشبّث بكرسي الحكم بأي ثمن جعلها تستخذي وتنام, وترضى من الغنيمة بالإياب, وتقبل بدور التابع لا القائد, وقد انعكس ذلك على الإنسان وعلى كل مظاهر الحياة العامة.
فمن يصدّق أن مصر حتى الآن لا يوجد فيها طريق سريع بالمقاييس الدولية, وماتم تنفيذه لا يزال في بدايته الأولى غير المكتملة, ولم يتعلم أكثر السائقين قواعد السير الصحيح في هذه الطرقات!
خطوط السكة الحديد على قدمها في مصر ما تزال متأخرة جداً عن العصر, من حيث نوع القطارات, وعدم كفاءة المحطات وبدائية الخدمات, وفي كثير من الأحيان سوء التعامل من قبل العاملين والموظفين, مما يدل على ضعف التأهيل والتدريب وعدم إنصاف هؤلاء في مستحقاتهم مما يسبب الفساد والإهمال والقصور..
قد تستغرب عندما تسير في الشوارع الخلفية للمدن الكبرى مثل الإسكندرية حيث تلحظ الأرصفة المكسرة والحفر الكثيرة وطفح مياه الصرف الصحي, وتتساءل أين كانت الأنظمة الحاكمة من الاهتمام بهذه الأولويات واستكمال البنية التحتية في بلد سياحي يفترض أن يستقبل ملايين السياح العرب والأجانب..
سنلحظ أن مصر - رغم ما تحقق فيها قياساً بكثير من الدول العربية - مازالت دون المؤمل منها في مجال: التعليم والبحث العلمي, والخدمات العامة, والوضع المعيشي للمواطن ومستوى دخل الفرد, وضعف الاقتصاد...
يضاف إلى كل ما سبق التضييق على الحريات وانتهاك حقوق الإنسان, كل ذلك وغيره جعل الثورة على النظام السابق أمر لابد منه, وإلا فإنه الموت البطيء الذي لا يمكن أن يقبل به الشعب المصري التوّاق للحرية والكرامة والصدارة, ولاسيما أن مصر تمتلك موارد اقتصادية ضخمة, ولديها كفاءات علمية نادرة بعضها باقٍ في الداخل, وكثيرون هجروا وطنهم وصاروا أعلاماً وقمماً عالية في مختلف أقطار العالم المتقدم اليوم, مع أن بلادهم أولى بعلمهم وإبداعهم وعطائهم..
لست هنا بصدد استقصاء السلبيات والإيجابيات وإنما ذكرت أمثلة فقط, وعندما نتحدث عن مصر لا نقصد الانتقاص من مكانتها, لكننا نشعر أنها القاطرة التي يمكن أن تسحب عربات كثيرة بعدها, وأن تأثيرها سيمتد إلى شقيقاتها العربيات, وأنها يمكن أن تشكل ثقلاً سياسياً واقتصادياً وتقنياً سيجعلها قادرة مع غيرها أن تحدث تغييراً إيجابياً في المنطقة وفي العالم..
هاهي مصر اليوم تدلف إلى عهد جديد هو الأقرب لتمثيل إرادة الشعب المصري والاهتمام بمصالحه, ولاشك أن التركة ثقيلة والتحديات كبيرة لكن البدايات الموفقة التي بدأها الرئيس مرسي تنبئ عن مستقبل زاهر لايعتمد على القائد الفرد وإنما ينهض بالعمل المؤسسي, ويعتمد على الإعلاء من شأن المواطن واحترام إرادته وصيانة حقوقه والحفاظ على حريته, وضرورة بناء سلطات الدولة المختلفة والفصل بينها بما فيها البرلمان على أسس صحيحة, ومن الغريب أن نجد حنيناً للاستبداد والديكتاتورية من بعض المثقفين, بل من بعض المحسوبين على الثورة, فضلاً عن فلول النظام السابق الذين يسوؤهم رؤية مصر تنتقل إلى الريادة, وتأخذ موقعها اللائق بها في العالم بعد الثورة التي قضت على أحلام التأبيد والتوريث وأوقفت الحنفية التي ظل الفاسدون يمتصّون ماءها خلال الحكم البائد!!
ستظل مصر في قلوبنا نحبها ونفخر بتقدمها ونهضتها وثورتها, وما نكتبه عنها دافعه المودة والتقدير, لا التقليل أو التشهير, مصر تستحق الأفضل, ولا نرضى لها أن تكون أقل من مثيلاتها اللائي سبقْنَها, فحقها أن تتقدم الصفوف, ورفعتها شرف يهمّ العرب جميعاً, ونتوقع أن نراها في القريب قد استعادت مكانتها التي تستحقها..