يقول (المسلم النمساوي) الأستاذ محمد أسد ( ليوبولد فايس) كما كان اسمه قبل إسلامه: " واضح إذن أننا مهما أوغلنا في التنقيب والبحث فيما سلف من حضارات البشر، فلن نجد توقيتاً معيناً نستطيع أن نحدده بدءاً لحضارة ما، أو تاريخاً لمولدها، ولا أن نعين حداً فاصلاً يميز بين حضارة ولت وأخرى أشرق عليها النور وتبدت للوجود. ولكن هناك استثناءً واحدا لكل ما أسلفنا من قول، استثناء تكاد لغرابته تذهل العقول وتنعقد الألسنة، فلم يذكر تاريخ البشر فيما عرفه الناس من حضارات سوى حضارة واحدة برزت للوجود من عالم الغيب دفعة واحدة، واستوت للناظرين قائمة على أصولها في فترة محدودة من تاريخ البشر، تلك ولا شك حضارة فذة من نوع فريد وإنها لحضارة الإسلام. فلئن قامت كل الحضارات الأخرى ونشأت رويداً رويداً من تراث الماضي بما حوى من ضروب الرأي وتيارات الفكر، واستغرقت في تبلورها إلى شكلها الخاص وكيانها المحدد آماداً طويلة من الزمن، فلقد انفردت حضارة الإسلام وحدها بانبجاسها إلى الحياة دون سابق عهد أو انتظار. وقد جمعت هذه الحضارة، من فجر نشأتها، كل المقومات الأساسية لحضارة مكتملة شاملة. فقامت في مجتمع واضح المعالم، له نظرته الخاصة إلى الحياة، وله نظامه التشريعي الكامل وله نهجه المحدد للعلاقات بين الأفراد، بعضهم ببعض داخل هذا المجتمع. ولم يكن قيامها ثمرة تقاليد زخر بها الماضي، ولا وليد تيارات فكرية متوارثة، ولكن هذه الحضارة، كانت وليدة حدث تاريخي فريد وهو تنزيل القرآن الكريم". (الإسلام والتحدي الحضاري. ص 19 - 20 ).
الحضارة في مفهوم الإسلام:
يقول د. محمد ظفر الله خان في "الحضارة الإسلامية بين الحضارات":" وأما الحضارة في تقدير الإسلام فغايتها الأولى تحقيق الطمأنينة والسلام والأمن وإقامة المجتمع الفاضل وإسعاد البشرية بما هو خير ومحاربة كل عوامل الشر.
... إذن، فالإسلام في حقيقته مصدر الحضارة الإنسانية التي شعّ نورها بامتداد الدعوة الإسلامية بعد الاستقرار في المدينة وبناء الدولة فيها عقب اكتمال بناء الفرد في مكة، وذلك لأن الإسلام هو دستور التقدم الإنساني بالقرآن العظيم والسنة النبوية الشريفة. فكل ما يعد تقدماً وعمراناً هو من الإسلام، وكل تخلف مضاد للتقدم ليس من الإسلام في شيء. لذا يخطئ الكاتبون سهواً الذين يريدون التوفيق بين الإسلام والحضارة كأنهما أمران متغايران أو ضدان، إذ لا خلاف مطلقاً بين الإسلام والحضارة، فالحضارة نتيجة من نتائج النظام الإسلامي والفلسفة الإسلامية التجريبية العملية".
أهم مبادئ و خصائص الحضارة الإسلامية ما يأتي:
1ـ مبدأ التوحيد : إن أبرز صفة حضارية للإسلام أنه دين التوحيد , أي أن الإله المعبود بحق هو الله سبحانه لا شريك له، والناس جميعاً مأمورون بعبادته من دون واسطة بشرية :{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ }البقرة (21). وهذا الإله هو الحاكم المطلق، الذي لا حكم لأحد معه :{ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ}يوسف (40).
2ـ الصبغة الإنسانية العامة: ليست حضارة الإسلام محدودة المكان أو وطنية النزعة أو قومية مغلقة على أهلها أو طبقية
محصورة في أسرة معينة، وإنما هي إنسانية عالمية واسعة الأفق تخاطب أي إنسان في أي مكان وتصلح للانتشار في أي بقعة أرضية وتقيم أخوة إنسانية عالمية:{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ }الحجرات (13).
ومن معنى الآية ما خطب به رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع إذ قال:( يا أيها الناس ألا إن ربكم واحد وأن أباكم واحد لا فضل لعربي على عجمي ولا لعجمي على عربي ولا لأسود على أحمر ولا لأحمر على أسود إلا بالتقوى ).
3ـ النظرة الشاملة للإنسان والحياة: حضارة الإسلام الخالدة قامت على أساس الجمع أو التوازن بين المادية والروحية الإنسانية فتصبح الروحية المهذبة أساس المادية المهذبة، وعندها ينعم الإنسان بالإرادة والحرية والتفكير وثمرة الجهود والعمل في إطار من الإيمان والأخلاق القائمة على العدل والأمن والاستقرار والرحمة والمحبة.
قال تعالى:{ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ }الأعراف (32).
4ـ رسالة الأخلاق: إن سياج الحضارة الإسلامية هو الدين والأخلاق، فمبادئ الأخلاق تتدخل في كل نظم الحياة وفي مختلف أوجه نشاطها سواء في السلوك الشخصي أم في السلوك الاجتماعي أو السياسي أو الاقتصادي.
ومثالاً على قيمة المبادئ الأخلاقية في الإسلام وارتباطها بشتى مناحي الحياة الدينية والدنيوية , ما أنزله الله في سورة الماعون :{ أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ * فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ * وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ * فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ * الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ * وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ}
5ـ دور العلم: أقام الإسلام حضارته الرفيعة على منهج العلم والمعرفة والعقل والبحث والتجربة والاستنباط تقديراً منه لحيوية العلوم في بناء الدولة والمجتمع فابتدأ بالقضاء على الجهل والأمية والتنديد بالتقليد الأعمى ثم أشاد بالعلم والعلماء في مختلف الاختصاصات الشاملة لكل إدراك يفيد الإنسان في القيام برسالته في الحياة وهي تعمير الأرض والاستفادة من خيراتها وكنوزها .
6ـ الحفاظ على الشخصية الذاتية: إن الأخذ بأسباب الرقي الحضاري أياً كان مصدره , لا يعني ضياع الشخصية الإسلامية وإهدار المقومات الذاتية، فلقد استفاد المسلمون في الماضي من حضارة غيرهم مع طبعها بطابعهم الشخصي والمحافظة على القيم الإسلامية .
7ـ الاعتصام بالحق والخير: الإسلام دين الحق كما عرفنا وطريق الدعوة إلى الخير وحضارته تقوم على مبدأ مناصرة الحق والعدل ومكافحة الباطل وعمل الخير وقمع الشر.. فلا ظلم ولا هضم للحقوق ولا إنتاج إلا للخير ولا ابتكار لما يضر ولا ينفع. وإحقاق الحق وتثبيته يتطلب تخطيطاً وثباتاً وقوة وتفانياً. والخير الذي يشمل كل أنواع الرقي المادي والمعنوي لا يتوفر بدون تعاون الفرد والجماعة والحاكم والمحكومين، وأما الشر فيمثل كل مظاهر الانحراف والشذوذ والتخلف.
8ـ الإيمان صمام الأمان: الإيمان في مفهوم الحضارة الإسلامية هو الذي يقيم قواعدها ويميز عناصرها الصالحة من الرديئة، وليس الإيمان مجرد عقيدة قلبية أو ديانة شخصية وإنما معناه الإسلام بكامله.
والإسلام نظام متكامل للأخلاق والمدنية والاجتماع والاقتصاد والسياسة، فهو الذي يوحد الأمة ويحفظ جهودها ويحافظ على وجودها وحضاراتها، وكلما قوي الإيمان قويت الحضارة، وكلما ضعف الإيمان ضعفت الحضارة وبقدر سيطرة تعاليم الإسلام على المجتمع بقدر ما يكون ازدهارها في المجال الحضاري.
عقلاء الغرب ينبهرون بحضارة الإسلام:
تقول المستشرقة "زيغريد هونكه" في كتابها القيم : (شمس الله تسطع على الغرب) : "إن هذه القفزة السريعة المدهشة في سلم الحضارة التي قفزها أبناء الصحراء ، والتي بدأت من اللا شيء لهي جديرة بالاعتبار في تاريخ الفكر الإنساني… وإن انتصاراتهم العلمية المتلاحقة التي جعلت منهم سادة للشعوب المتحضرة لفريدة من نوعها ، لدرجة تجعلها أعظم من أن تُقارَن بغيرها ، وتدعونا أن نقف متأملين : كيف حدث هذا ؟! إنه الإسلام الذي جعل من القبائل المتفككة شعباً عظيماً ، آخت بينه العقيدة ، وبهذا الروح القوي الفتي شق العرب طريقهم بعزيمة قوية تحت قيادة حكيمة وضع أساسها الرسول بنفسه … أو ليس في هذا الإيمان تفسير لذلك البعث الجديد ؟! والواقع أن روجر بيكون أو جاليليو أو دافنشي ليسوا هم الذين أسسوا البحث العلمي .. إنما السباقون في هذا المضمار كانوا من العرب الذين لجأوا - بعكس زملائهم المسيحيين - في بحثهم إلى العقل والملاحظة والتحقيق والبحث المستقيم ، لقد قدّم المسلمون أثمن هدية وهي طريقة البحث العلمي الصحيح التي مهدت أمام الغرب طريقه لمعرفة أسرار الطبيعة وتسلطه عليها اليوم … وإن كل مستشفى وكل مركز علمي في أيامنا هذه إنما هي في حقيقة الأمر نُصب تذكارية للعبقرية العربية … وقد بقي الطب الغربي قروناً عديدة نسخة ممسوخة عن الطب العربي ، وعلى الرغم من إحراق كتب ابن سينا في مدينة بازل بحركة مسيحية عدائية ، فإن كتب التراث العربي لم تختف من رفوف المكتبات وجيوب الأطباء ، بل ظلت محفوظة يسرق منها السارقون ما شاء لهم أن يسرقوا".
ويقول الكاتب الفرنسي "أناتول فرانس" في كتابه (الحياة الجميلة) : "أسوأ يوم في التاريخ هو يوم معركة (بواتييه) عندما تراجع العلم والفن والحضارة العربية أمام بربرية الفرنجة ، ألا ليت شارل مارتل قطعت يده ولم ينتصر على القائد الإسلامي عبد الرحمن الغافقي" . "حين نتذكر كم كان العرب بدائيين في جاهليتهم يصبح مدى التقدم الثقافي الذي أحرزوه خلال مئتي سنة ، وعمق ذلك التقدم ، أمراً يدعو إلى الذهول حقاً ، ذلك بأن علينا أن نتذكر أيضاً أن النصرانية احتاجت إلى نحو من ألف وخمسمئة سنة لكي تنشئ ما يمكن أن يدعى حضارة مسيحية ، وفي الإسلام لم يُولّ كل من العلم والدين ظهره للآخر ، بل كان الدين باعثاً على العلم ، وإن الحضارة الغربية مدينة للحضارة الإسلامية بشيء كثير إلى درجة نعجز معها عن فهم الأولى إذا لم تتم معرفة الثانية".
ويقول "لغوستاف لوبون" في كتاب (حضارة العرب): "إن حضارة العرب المسلمين قد أدخلت الأمم الأوربية الوحشية في عالم الإنسانية ، فلقد كان العرب أساتذتنا … وإن جامعات الغرب لم تعرف لها مورداً علمياً سوى مؤلفات العرب ، فهم الذين مدّنوا أوربة مادة وعقلاً وأخلاقاً ، والتاريخ لا يعرف أمة أنتجت ما أنتجوه … إن أوربة مَدينة للعرب بحضارتها … والحق إن أتباع محمد كانوا يذلّوننا بأفضلية حضارتهم السابقة ، وإننا لم نتحرر من عقدتنا إلا بالأمس ! وإن العرب هم أول من علّم العالم كيف تتفق حرية الفكر مع استقامة الدين … فهم الذين علّموا الشعوب النصرانية وإن شئت فقل حاولوا أن يعلموها التسامح الذي هو أثمن صفات الإنسان … ولقد كانت أخلاق المسلمين في أدوار الإسلام الأولى أرقى كثيراً من أخلاق أمم الأرض قاطبة … ".
خطيب جامع سميح بحي السّحيل / سيئون