أحد أصدقائي سألني متعجباً ؛أراك تحولت سياسي هذين اليومين ؟!
فأجبته ؛هل يمكن لأحد يسكن هنا ويرى هذا ويسمعه ويعايش كل هذا المجتمع المسيّس وكل لحظة من يومه تمر بحوادث معظمها سياسة أو نتاج للسياسة ثم لايتفاعل معها ؟ ثم هل يجوز لأحد يرى منكراً أو معروفاً ثم لايعزز أو يندد ولو بالقول فضلاً عن كوننا مأمورين بهذا شرعاً (من رأى منكم منكراً ..) .
يقول مارتن لوثر كنغ : " إنّ أسوأ مكان في الجحيم محجوز لهؤلاء الذين يقفون على الحياد في أوقات المعارك الأخلاقية العظيمة ، وأن المصيبة ليست في ظلم الأشرار وإنما في صمت وحياد الأخيار".
رغم هذا سأوحاول أن أكون محائداً وأنظر للأمر بتجرد ما استطعت .
يتساءل عامة الناس ما المخرج من هذه الأوضاع التي أيقن ألا أحد يتوقع نتيجتها أو يتصور ما ستؤول إليه حتى من قادة الأحزاب والتيارات الفكرية والسياسية والسبب أن الأمور تتسارع وتحصل كل يوم متغيّرات لا تخطر على بال المنظّرين - لهم أوعليهم – يصبّحهم النهار ببشرى ويمسّيهم الليل بكارثة مقترنة بقرار دولي أو تصلّب مركز قوة أو سخط شعبي جاء كردة فعل غير محسوبة .
الوحدة كـَحل :
يرى البعض أن الوحدة ضرورة بشرية وفريضة شرعية يؤصّل لها بالقرآن والسنة والقياس والمصالح المرسلة وهذا رأيه ويحترم ولكنّي أرى أن الوحدة بشكلها ومضمونها لم تعد حلاً لأمور :
أولاً : أن الشعب خبرها وعافها وتزامنت أكثر مصائبه بحلولها - في الجنوب وفي الشمال- ففي الوقت الذي نرى فيه أننا ظُلمنا ونهبت ثرواتنا ، يرى إخواننا في الشمال أنهم عرفوا معنى المعيشة الضنك بعد الوحدة وذلك لأن عملتهم كانت معززة وعلاقتهم بدول الجوار كانت سمناً على عسل وأمورهم كانت مستقرّة .فبعضهم لا يرى أن الوحدة مفيدة لهم على الأقل من الناحية الاقتصادية وهي التي نمن عليهم بها ونتباكى عليها .
ثانيا : يقول البعض أن عشرين سنة كافية لإحداث تغيير أو تثقيف شعب أو انسجام مجتمع ومالم يحصل في فيما مضى يصعب حدوثه فيما هو آت .
ثالثاّ: ما الفائدة أن تتوحّد صحارى وجبال وتتسع خارطة في حين تتفرق القلوب وتضيق الصدور وتتعمق الكراهية حين يفرض الأمر بالقوّة . وإذا كان في كتاب الله ( لا إكراه في الدين ..) فمن باب أولى لا إكراه في الوحدة .
وعلى هذا نرى أن الوحدة لم تعد حلاً مجدياً لليمن لا شكلاً و لا مضموناً خشية أن يتسع الخرق على الراقع وكما قيل (تجريب المجرّب ...مخرّب).
إذن هل الانفصال هو الحل ؟
يرى البعض الآخر أن الانفصال أيضاً ليس حلاً ولا جزءاً من الحل فلا شرعاً ولاعرفاً ولا مصلحة في تفريق الشعوب وتمزيق الأوطان وتشتيت الجهود في الوقت الذي تتوحد فيه شعوب الأرض على اختلاف أديانها وتنوع أجناسها .
ومبرر هذا الرأي مايلي :
أولاً : أننا قد جرّبنا الانفصال وربما ذقنا فيه الويل ، فلا استخرجنا الثروات - رغم أنها كانت مدفونة تحت أقدامنا – ولاعشنا بكرامة رغم أن من حكمنا من بني جلدتنا ، ولاعرفنا الحرية ولا تمتعنا حتى بما نملك أو نكسب من جهد أيدينا .فلماذا نعود إلى ما نجانا الله منه؟.
ثانياً: يجزم كل أبناء الجنوب وكذلك في الشمال أن الشطر لن يعود شطراً ، فأبناء حضرموت يفضلون الموت - كما يقول البعض – على التبعية لأبناء يافع والضالع - أيضاً من باب تجريب المجرّب – والعدانية ينادون (عدن للعدنيين) ، وغير هذا ألم تلحظوا خلال الأيام الماضية تعالي أصوات السلاطين وكثرة بياناتهم وماذا تعني ؟ فكيف لو عاد الكثيري والقعيطي والعبدلي والفضلي والواحدي و23 سلطنة في الجنوب ، وأين سيذهب أتباع الأحزاب السياسية بتنظيماتهم ورؤاهم ، أيضاً لاتنسوا القاعدة والأفكار الأخرى تريد لها موطئ قدم بل وتدّعي أنها أولى ببعض المناطق بنص حديث الرسول .
ثالثاً : يتخوّف الكثير في الجنوب من خيارين ؛ الأول : (مصطلح فك الارتباك) بمعنى استعادة دولة اليمن الديمقراطية بنظام حكمها ونفس حاكمها وهو الحزب الاشتراكي واللجنة المركزية وعلي سالم البيض وهذا مايعنيه (فك الارتباك) وهو مايصرّ عليه (البيض ) رغم أنه في البداية كان يقول الجنوب العربي ثم غيّر خطابه وأكّد على (اليمن الديمقراطي)! وهذا الخيار بهذه الطريقة والكيفية يرفضه أغلبية أبناء الجنوب بمن فيهم أغلبية الحراك الجنوبي .
الخيار الثاني : وهو الانفصال وقيام نظام ديمقراطي جديد وهو ما يتمنّاه أبناء الجنوب لكنهم لا يثقون في تحققه في ظل ما تمارسه بعض التيارات اليوم من إقصاء لمن يخالفها ويقولون : من منعك من الوقوف في الشارع لا يمكن أن يسمح لك بدخول القصر !.
رابعاً : إصرار المجتمع العربي والدولي على وحدة اليمن واستقراره لا أظنه جاء من فراغ ولا حباً في اليمن ولكن قراءة لما سيكون عليه الحال لو حصل غير هذا وما سيحدث لمصالحهم من ضرر .
خامساً : قيادات جنوبية كبيرة وحكيمة أكّدت أكثر من مرّة أن الانفصال ليس حلاً كما قال أمين عام الحزب الاشتراكي ياسين سعيد نعمان ، وأظن أنه حتى كثير ممن ينادون بالانفصال لا يريدون إلاّ حل القضية وإنصاف الشعب ومسألة رفع السقف والمزايدة في الشعارات معلومة في علم السياسية .
وهنا يتدخّل طرف آخر رافعاً السقف بتشنّج ليس حباً في الحل ولكن طمعاً في تعقيد الأمور وخروج الأمور عن السيطرة وهو ما يفعله بعض المحسوبين على النظام السابق ممن يمارسون العهر السياسي بكل قذارة - حد وصف د. عبدالله الأصنج - ففي حين يطالبون بطرد المحتل - كما يقولون- نجدهم هم أنفسهم الممسكين بمفاصل الدولة والحاكمين باسم الاحتلال المزعوم !.
إذن ما الحل ؟
أرى - إن حُقَّ لي أن أرى- أن إقحام النصوص الشرعية في الخلافات السياسية أمر غير مرّغب فيه والسبب أنك ستجد في كتاب الله ما يؤيد رأيك ويدعم توجهك إذا أردت ذلك كما سيجد من يخالفك ما يريد أيضاً ( ما فرّطنا في الكتاب من شيء ) ومن يؤكد على فرضية الوحدة بالنص ربما وجدناه يؤصّل لعكسها في أماكن أخرى من العالم الإسلامي لاقتضاء المصلحة ، إذن فالأمر موضع مصلحة ومفسدة لاغير ومن هنا يتدخل شرع الله فأينما وجدت المصلحة فثَمَّ شرع الله !.
وأرى أن مصلحة الشعب لا تكمن في وحدة اليوم ولا في انفصال الأمس ليقيننا من خلال التجربة بفشل المشروعين وعدم تحقيقهما لرفاه الشعب ولا داعي لفرض أي الخيارين بالقوّة أو صبغة بالقداسة وتزيينه بالآيات والأحاديث .
أتوقّع أن حل ّ الإشكال سيكون وسطاً بين طرفين ،إذ لاهو (وحدة الموت ) ولا ( موت الوحدة) بمعنى أن نبقي على شيء من الوحدة مع تعديل شكلها ومضمونها فليبقى اليمن كبيراً بأرضه كثيراً بشعبه ولكن بشكل آخر ونظام جديد .
أتوقّع أن تكون (فيدرالية الأقاليم) خيارا جيّداً وحلاً وسطاً ويحقق آمال غالبية الشعب ، يبقي على شيء من محاسن الوحدة ويجنبنا شيئاً من مخاطر الانفصال .
بقلم : عبدالرحمن بن غانم