إن حادثةَ صلح الحديبية فيها قاعدة أصيلة أصَّلها النبي - صلى الله عليه وسلم - للأمة إلى يوم القيامة ، وهي قاعدة: "اعتبار المآلات"، وما يترتب على هذه القاعدة من مصالح للأمة ؛ فقد طلبت قريشٌ من رسول الله صلى الله عليه وسلم مطالب هي في نظر أغلب الصحابة ظالمة ومجحفة، أن يمحوَ "بسم الله"، و"محمد بن عبدالله"، وألا يدخُل مكة، ومن جاء مسلمًا دون إذن وليِّه يردّه ، ومن ارتدَّ عن الدين الإسلامي فلا ترده قريش، فقبِل - عليه الصلاة والسلام – ورضي ، وهذا الذي يجب أن يفقهَه كلُّ من يدعو إلى الله.
من يدعو إلى الله لا ينتصر لنفسه ، المهم عنده أين مصلحة الإسلام ومصلحة الأمة ، والعاقل يقبل بالمرحلية في حياته ، ويؤمن بالواقع الذي يعيشه وهو بين كر وفر يتنازل حينا ويشد أحيانا بما يؤديه اليه اجتهاده ومعطيات واقعه.
واعتبارًا لفقه المآل وضرورة النظر في عواقب الأمور يعلِّم النبي - صلى الله عليه وسلم - أمتَه كيف تحقِّق النصرَ وما تريد بأقلِّ الخسائر، بل بدون خسائر أحيانًا؛ فقد حقن دماء المسلمين عندما غيَّر طريقَه واختار طريقًا وعرًا حماية للدماء والنفوس التي تهدر الآن بغير وعي بسبب أخطاء بعض الأفراد الذين يستعجلون النتائج، ولا يعلم هؤلاء أن كونَ الله يسير بقوانينَ ربانية ، ما إن سار عباد الله في فلكها ظفِروا بالمطلوب ، وقد جاء في كتاب "اقتباس النظام العسكري في عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم" ما يُبيِّنُ الحكمةَ من تغيير الطرق ما نصه: ويؤخذ من اتخاذ الأدلة والتحول إلى الطرق الآمِنة أن القيادة الواعية البصيرة، تسلُك في سَيْرِها بالجيش دروبًا بعيدة عن المخاطر والمهالك ، وتتجنب الدروب التي تجعل الجيش خاضعًا تحت تصرفات العدو وهجماته"؛ (انظر: اقتباس النظم العسكرية، ص 258).
ذكر ابن عقبة أنه لما كان صلحُ الحديبية ، قال رجال من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما هذا بفتحٍ ، لقد صُدِدنا عن البيت ، وصُدَّ هَدْيُنا"، فبلغ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قولُ أولئك، فقال: ((بئس الكلام هذا ، بل هو أعظم الفتوح ، قد رضي المشركون أن يدفعوكم بالرَّاح عن بلادهم ، ويسألوكم القضية ، ويرغَبوا إليكم في الأمان ، وقد رأَوْا منكم ما كرهوا ، وأظفَركم اللهُ عليهم ، وردَّكم سالمين مأجورين ؛ فهو أعظم الفتوح ، أتنسون يوم أحد ؛ إذ تُصعِدون ولا تلوون على أحد ، وأنا أدعوكم في أخراكم ، أنسيتم يوم الأحزاب؛ إذ جاؤوكم من فوقِكم ومن أسفلَ منكم ، وإذ زاغت الأبصارُ وبلغت القلوبُ الحناجرَ، وتظنُّون بالله الظنونا)) ، فقال المسلمون: صدَق الله ورسوله؛ فهو أعظم الفتوح ، والله ما فكَّرْنا فيما فكَّرْتَ فيه، ولأنت أعلمُ بالله وأمرِه منا.
بقلم : الخضر بن حليس