* السخرية الناقدة الإيجابية:
أسلوب عذب، وطريقة سهلة لنقد واقع متصلب لا يسمع ولا يرى ولا يشم ولا يذوق ولا يحس؛ أي معطلة حواسه الخمس، ورفض الدافع الذي لا يبالي بأي وادٍ هلكت، هذا الواقع وذاك الدافع ليس له إلا السخرية لكشف سوأته ومواطن خلله. وهذا الحد من السخرية لا بأس به وإن كان أسلوباً قاسياً قوياً لاذعاً مدويا، لكنه يلفت أنظار الأذكياء إلى الخلل في واقعهم الاجتماعي، أما الأغبياء فيجعلونه وسيلة لحرب منتقديهم، وتأليب الآخرين عليهم وذلك بتغذية أن زميلهم الساخر أو المتمسخر يهزأ بهم ويحتقرهم، وهو الذي لم يجد حيلة أنفع من السخرية للتعبير عن رفضه للسياسات والأخطاء والمعالجات التي يحسبها خاطئة فلم يسمع لرأيه. وهي وإن كانت قاسية إلا أن بعض القسوة في الحياة يكون كتشذيب الشجر في وقته وأوانه، يُقطع منه ليزداد قوة على قوته، وثباتاً على ثبات وجوده، فيتمتع ذلك الشجر بحقه في البقاء ناميا، فما يزال ينمو ويسمو وينتشر ويخضر ويثمر. إنها سخرية تمثل شكلاً من أشكال إعادة التوازن للواقع، تحول العجز إلى قوة، والانكسار إلى عزة وانتصار لو أحسن فهمها. ولهذا:
لا تلمني إن سخرتُ
لا تلمني يا أخي
لا تلمني أن سخرتُ
فإن ما بي لا يحتمل التواني!
من أين أبدأ والقوافي مثقلة
وحروفها نارٌ تراها مُشْعله
هي أحرفي هي كالسهام المرسلة
إني سأرسلها لكم يا أخوتي
هل تسمع الآذان أم هي مقفلة
مثقلة
إنها آهات قلب يشتكي وآكله
من هذا النوع من السخرية ما سطره أبو القاسم الشابي غفر الله له في قصيدته (المجلس البلدي) ومما جاء فيها:
حتى عيالي إذا ما جئتُ أحسبهم
أقول ذا لي وذا للمجلس البلدي
أو ما يسطره الشاعر أحمد مطر هذه الأيام في لافتاته، ومنها قصيدته المعنونة: تحت نعال
بانفعال قلت:
تحت نعالي
كل أصحاب المعالي
قيل: انظر ما تقول
فكررت مقالي
قيل انظر ماتقول
فكررت مقالي قيل انظر ما تقول
فأدركت خطائي
واعتذرت لنعالي
إذن فلسخرية التي تنتقد السياسات لا الأفراد، فهذا الحد من السخرية أحسبه مباح والله أعلم، لكن:
* السخرية المعيبة السلبية:
تلك التي عرفها القرطبي غفر الله له بأنها: استحقار (الأشخاص بأعينهم) والاستهانة، والتنبيه على العيوب والنقائص بوجه يُضحك.. وقد تكون بالمحاكاة بالفعل أو القول أو الإشارة أو الإيماء بالهمز بالفعل أو اللمز بالقول، أو بالضحك من كلام المسخور منه إذا تخبط فيه أو غلط، أو بالضحك على صنعته أو قبح صورته، هذه السخرية تجرح النفوس، وتحزن القلب، وتؤلم المشاعر، وتكدر الخاطر، وهي كلما تُنسى بل تنقش في الذاكرة نقشا. هذا النوع جاء في الحديث الزجر عنه: (بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم) [رواه مسلم] فهي سخرية تحمل في طياتها معنى الأنانية والغطرسة والطمع، وتسلب الآخرين حريتهم. فهل يستطيع المربون أن يفرقوا بين صنفين من السخرية؟
والسخرية كما تكون بالقول أو الفعل تكون أيضاً بوسائل أخر من أشهرها في زماننا: الرسوم الكاريكاتيرية.
بقلم الأستاذ : محمد يسلم بشير