إن للعلم والتعلم والتعليم في دين الإسلام وعند أمة الإسلام منزلة رفيعة ومكانة عالية ، ليست في دين من الأديان ولا عند أمة من الأمم .
وحسب دين الإسلام وأمة الإسلام دلالة على ذلك أول آيات نزلت من القرآن الكريم على محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وهي الآيات في صدر سورة العلق ، قال الله عز وجل : ( بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ . خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ . اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ . الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ . عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ) سورة العلق :2- 5 .
فهذه خمس آيات في واحدة منها فائدة تدل على فضل العلم والتعليم : – ففي الآية الأولى أمر بالقراءة التي وسيلة العلم والحضارة والمدنية ، وفي افتتاح القرآن بهذه الكلمة دلالة كافية على أن أمة القرآن هي أمة القرآن هي أمة العلم والحضارة والرقي ، وهذا ما كان يوم كانت الأمة متعلقة بالقرآن .
–وفي الآية الثانية خبر عن أصل خلق الإنسان وأنه من علق ، وفيه إشارة إلى أهمية معرفة الحقائق وأصول الأشياء ، ولا يتم ذلك إلا بالبحث العلمي الدؤوب.
-وفي الآية الثالثة نص على أن موهبة القراءة من أعظم دلائل تكريم الرب جل جلاله . وفي الآية الرابعة إشادة بالقلم والكتاية وأن القلم هو وسيلة التعلم . -وفي الآية الخامسة خبر عن أهلية جنس الإنسان للتعلم ، وأن التعلم ليس خاصا بفئة أو طبقة أو جنس ؛ بل هو عام لجنس الإنسان وحق من حقوقه .
تلك هي الآيات التي افتتحت بها نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وهي كافية لمن تأملها لمعرفة طبيعة هذه الرسالة ، وفيها الدلالة الكافية للتنبؤ بما ستكون عليه أمة الإسلام . ولم يطل العهد بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم حتى أنزل الله عز وجل عليه صدر سورة القلم ، سورة خاصة سميت باسم القلم أنزل الله على نبيه صلى الله عليه وآله وسلم في صدرها :
( بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ ن ۚ وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ . مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ) [سورة القلم :1- 2]. فأقسم الله عز وجل فيها بالقلم وأقسم فيها بما يسطره الخلق ويكتبونه ، والقسم بالشيء تعظيم له ورفعة ، فكيف إذا كان من رب العالمين جل جلاله ، فهذا تعظيم من الرب سبحانه وتعالى للقلم والكتابة به .
وإذا تأملنا العموم الذي تدل عليه “ما ” في قول الرب سبحانه ( وما يسطرون ( علمنا يقينا أن التعظيم في الآية لعموم الكتابة والعلم النافع ، وليس ذلك خاصا بالعلوم الدينية . وثمة شيء آخر في الآية يدل على مكانة العلم في رسالة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وذلك هو الربط بين المقسم به ( والقلم وما يسطرون ) والمقسم عليه ( ما أنت بنعمة ربك بمجنون) فالمقسم عليه هو صدق رسالة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وكذب الدعاوى والافتراءات التي توجه له ولرسالته ، فأقسم الله عز وجل بالقلم والكتابة والمكتوبات على صدق رسالة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ورد دعاوى المبطلين حولها ، وفي ذلك دلاله ظاهرة على أن العلم يؤيد رسالة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ويتظافر معها للوصول إلى الحقيقة ، وحسبك بذلك دليلا على أهمية العلم والتعليم في الإسلام فهو ركيزة أساسية من ركائز صدق الرسالة ، وهذا بخلاف الأديان التي وقعت الخصومة بينها وبين العلم حتى ألجئ أبناء ذلك الدين لإحداث مذهب الفصل بين الدين والحياة (العلمانية)، ذلك الفصام النكد ، وأما الإسلام فلم يكن أبناؤه بحاجة إلى ذلك ؛ لأنه دين لا يقبل أي شيء يتنافى مع الحقائق العلمية الثابة ؛ لأنها خلق الله كما أن الدين وحي الله ولا يمكن أن يتناقض ويتضاد وحي الله عز وجل مع خلقه .
وتتوالى آيات القرآن بعد ذلك في فضل العلم والعلماء ، وفي الحث على التفكر والنظر في آيات الأنفس والكون بحيث لا يتأتى لنا أن نلم بها في مقام واحد ، فمن الآيات في فضل العلم والعلماء هذه الطائفة من الآيات :
قال الله عز وجل : ( قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ۗ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ) [سورة الزمر : 9].
وقال الله عز وجل : ( يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ ۚ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) [سورة المجادلة : 11].
وقال الله عز وجل : (وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَٰلِكَ ۗ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ۗ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ) [سورة فاطر : 28].
وقال الله عز وجل في الأمر بالنظر : (قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ) [سورة يونس : 101].
وقال الله تعالى : ( أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت . وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ . وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ . وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ) [سورة الغاشية :17- 20].
ويتوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذلك بجعل العلم عبادة توصل إلى الجنة ، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم «ﻭﻣﻦ ﺳﻠﻚ ﻃﺮﻳﻘﺎ ﻳﻠﺘﻤﺲ ﻓﻴﻪ ﻋﻠﻤﺎ، ﺳﻬﻞ اﻟﻠﻪ ﻟﻪ ﺑﻪ ﻃﺮﻳﻘﺎ ﺇﻟﻰ اﻟﺠﻨﺔ» رواه مسلم . وأكثر من ذلك أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم جعل طلب العلم فريضة من الفرائض الدينية ، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : «ﻃﻠﺐ اﻟﻌﻠﻢ ﻓﺮﻳﻀﺔ ﻋﻠﻰ ﻛﻞ ﻣﺴﻠﻢ» رواه ابن ماجه .
ومن أعجب ما جاء في السنة في فضل التعليم حصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وظيفته في التعليم ، ففي الحديث التعليم وسيلة العلم عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال :« ﺇﻥ اﻟﻠﻪ ﻟﻢ ﻳﺒﻌﺜﻨﻲ ﻣﻌﻨﺘﺎ، ﻭﻻ ﻣﺘﻌﻨﺘﺎ، ﻭﻟﻜﻦ ﺑﻌﺜﻨﻲ ﻣﻌﻠﻤﺎ ﻣﻴﺴﺮا» رواه مسلم. فحصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وظيفته في التعليم وحده ، وفي هذا أعظم الدلالة على شرف هذه الوظيفة وعلو مكانتها .
ولقد فهم سلفنا الصالح والمسلمون الأوائل هذه النصوص وغيرها من النصوص المحفزة والمحركة للعلم وطلبه وتعليمه فأخذوا يتأملون في نصوص الكتاب والسنة ، وفي آيات الله المخلوقة في الأنفس والآفاق فأثمر ذلك تراثا عظيما ورثوه لنا ولعموم البشرية سواء منه التراث التشريعي أو التراث الثقافي والأدبي أو التراث العظيم في العلوم التطبيقية والعلوم الإنسانية ، ونتج عن ذلك تلك الحضارة العظيمة والمجد التليد الحضارة الإسلامية والمدنية الإسلامية التي لم ينزل العالم ينهل من معينها النابض إلى اليوم .
لكن الناظر في حال الأمة اليوم يرى تخلفها ووقوعها في ذيل الأمم ، والسبب الرئيس لذلك هو عدم أخذها بأسباب التحضر والتقدم والرقي ، وأساس ذلك عدم اهتمامها بالعلم والتعليم ، ولقد كانت بداية ذلك الانحطاط بترك العناية بالقرآن والاهتمام به ، القرآن الذي كان هو المشعل الحقيقي لحركة العلوم الإسلامية وظهور الحضارة العربية الإسلامية ، وبدلا من استلهام الحضارة والرقي من منطلقات القرآن وتوجيهاته التي تجعل العلم شيئا مقدسا وعبادة وقربة، والتعلم فرضا شرعيا أخذ بعض أبناء المسلمين يبحثون عن طريق للعلم والتحضر عن طريق التغريب والاتباع الأعمى للغرب ، فكانت النتيجة هو هذا الحال .
وإذا أردنا أن نعيد للمسلمين مجدهم وللأمة مكانتها فعلينا أولا أن ننطلق من منطلقات القرآن التي من أهمها :
:– أن العلم النافع عبادة يتقرب بها إلى الله عز وجل سواء كان العلم دينيا أو دنيوي. وانطلاقا من ذلك فلابد لبذل الأموال الكافية والجهود الكافية لتحقيق هذه العبادة العظيمة . – أن طلب العلم النافع فريضة على كل مسلم ومسلمة كل بحسبه ، والعلوم النيوية النافعة من فروض الكفايات كما نص على ذلك الفقهاء. فلابد من توعية المجتمع بهذه الحقيقة ولابد لتوفير المناخ المناسب لذلك والمتطلبات الضرورية لتعليم كل مسلم ومسلمة . – أن وظيفة التعليم هي وظيفة الأنبياء والمرسلين ، وحسب المعلمين فخرا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : « إنما بعثني ربي ميسرا ومعلما ». رواه مسلم . وانطلاقا من ذلك لا بد لرد الاعتبار للمعلم وتنزيله منزلته اللائقة .
– أن التعبد لله بهذه العبادة ، والقيام بهذه الفريضة ، والمنزلة العظيمة التي جعلها الله عز وجل للعلم والتعليم تتنافى كلية مع ظاهرة الغش السيئة ، ذلك السرطان الخبيث الذي يأكل في جسد العلم والتعليم ، ولا مناص من إجراء عملية جراحية لإزالة ذلك الورم الخبيث ولو كان ذلك مؤلما للجسد ولكنه بعد ذلك سيتعافى تماما ، فلابد من حملة قوية وتوعية تامة بخطورة هذا الورم الخبيث ( الغش) حتى يقتنع كل أعضاء العملية التعليمية من مسئولين ومدراء مدارس ومدرسين وطلاب بأن لا مناص من إجراء تلك العملية وإن صاحبها ما صاحبها من صراخ وألم ومعاناة وغياب عن الوعي لفترة ؛ لأن في ذلك إنقاذ حياة التعليم . – أن من أساس الانطلاق من منطلقات القرآن أن لا نتخذ الغرب الكافر هو دليلنا أو مستشارنا في هذه النهضة ،؛ فإنه لا يريد خيرا بنا ولا يألوا جهدا في إفساد أمرنا كما أخبر الحق سبحانه وتعالى في القرآن بقوله :
)يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ ۚ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ ۖ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ) [سورة آل عمران : 118]. فحرم الله عز وجل على أهل الإيمان أن يتخذوا بطانة وأمناء ومستشارين مقربين ممن سوى المسلمين ، وبيّن علة ذلك بقوله :( لا يألونكم خبالا …)أي لا يقصرون في إفساد أمركم … ولا يعني ذلك بحال أن لا نأخذ ما عندهم من حقائق علمية ومكتشفات فهذه أشياء لا نسب لها والحكمة ضالة المؤمن أينما وجدها فهو أحق بها ، ولكن لا يؤتمنون على أخلاق ولا على ثقافة ولا على الطرق الموصلة للنهضة والخروج من الأزمات ؛ لأنهم لا يؤتمنون على ذلك كما أخبر ربنا سبحانه وتعالى .
بقلم / صالح محمد باكرمان