صالح مبارك عصبان
abnmbark@hotmail.com
حفل التاريخ الحضرمي المعاصر بنقاشات ومعارك فكرية دارت بين العلماء والأدباء والمفكرين والمؤرخين المهتمين بحضرموت ، وجرت على وجه الخصوص في القرن الرابع عشر الهجري ، بعد التواصل مع الثقافة العربية وانتشار المجلات وتوسع الطباعة ، ومن ذلك ما دارفي المهجر بين عدد من المفكرين، فقد أثاركتاب محمد بن عقيل بن يحيى ( ت 1350هـ ) ( النصائح الكافية لمن يتولى معاوية ) كثيرا من العلماء لما يحمله من أفكار تخالف ما يعتقده أكثر أهل حضرموت ، وما يعد تجاوزا ، فرد عليه الشيخ حسن بن علوي بن شهاب ( ت 1333هـ ) بكتاب ( الرقية الشافية من نفثات سموم النصائح الكافية لمن يتولى معاوية ) فند فيه مزاعم محمد بن يحيى وما يحمله من تشيع ، فبادر الأديب الشاعر أبوبكر بن عبد الرحمن بن شهاب ( ت 1341هـ ) بالانتصار لتلميذه ابن يحيى متبنيا مسلكه الرافضي ، وألف ( وجوب الحمية من مضار الرقية ) ، وقد شاركت في هذه النقاشات مجلة (المنار) المصرية ، ووصل أثرها إلى حضرموت.
ولا بد من ذكر شخصية ترتبط بقضايا التأليف والبحث في حضرموت جمعته بأدباء ومؤرخي عصره مناقشات وردود بحثية ألا وهو الأستاذ الباحث عبد الله بن حسن بلفقيه ( ت1400هـ ) من كتاب صحف المهجر ، شارك في تأسيس جمعية الحق ونادي الشبيبة المتحدة بتريم ومجلس الإفتاء الشرعي والمعهد الفقهي ، كما كان وكيلاً لمجلة ( الرابطة العلوية ) التي كانت تصدر في اندونيسيا وترسل إلى تريم عبر عدن .
ومما تميز به بلفقيه عن معاصريه أنه دخل في معارك فكرية مع عدد من الباحثين في تلك الفترة التي شهدت تأليف كتب تاريخية خرجت عن الطريقة القديمة في التأليف التي كانت مهتمة بالحوليات والمناقب والتراجم والكرامات وتاريخ الأسر، حيث ظهرت أبحاث تقسم التاريخ الحضرمي حسب مراحله الزمنية وتتوسع في الحديث عن الجوانب العلمية والثقافية والسياسية والصراعات الفكرية ، وأثيرت حينها أسئلة لم تثر من سابق مثل وجود العلم والثقافة بحضرموت قبل دخول المهاجر، وفترات الإباضية ، ودخول المذهب الشافعي حضرموت ، واحتدم النقاش عبر المجلات والصحف والكتب ، ودخل مجال التاريخ سجال فكري لم يكن معروفا من قبل وظهرت أقلام لم تسلم بكل ما يقال ، بل تعرضه على ميزان البحث والتمحيص، وما يهمنا نحن اليوم أن هذا الجدل الثقافي يدل على تحول في مستوى التأليف والتفكير، كما يدل من ناحية أخرى على الاستفادة من الطباعة والاتصال بالعالم الخارجي والصحف والمجلات العربية والمحلية ، وهو جزء من التراث المعرفي والنهضة الثقافية، وثمرة هذه الحركة هو في ما أفرزته من معلومات وما فتحته من أبواب هيأت لمن بعدهم دخولها ومواصلة البحث.
ومما كتبه الأستاذ بلفقيه رسالة سماها : ( نحو المدخل إلى التاريخ الحضرمي) وهو ردً على موضوع للأستاذ أحمد عوض باوزير نشره في جريدة النهضة العدنية بتاريخ 16 / 10 / 1373هـ ، 17 / 6 / 1954م بعنوان ( المدخل إلى التاريخ الحضرمي ) وضع فيه نقاط تتعلق بتاريخ حضرموت ودعا إلى ضرورة الابتعاد عن النزعة الطائفية عند التأليف ، وأثار قضية اختفاء تاريخ الإباضية ، وازدهار العلم في حضرموت في دولة كندة ، وقضايا تاريخية مختلفة، وقد ناقش بلفقيه كل نقطة مبينا وجهة نظره المعارضة لما طرحه باوزير، وكتب بحثاً آخرا سماه ( استدراكات وتحريات على تاريخ حضرموت ) وهو مناقشة لما ورد في كتاب الأستاذ سعيد عوض باوزير ( تاريخ حضرموت في شخصيات ) وقد شكك الأستاذ بلفقيه في شخصية الإمام الإباضي أبي اسحاق الهمداني ، ونفى وجود علم وعلماء بحضرموت عند قدوم المهاجر ، وأطلق عبارته الشهيرة ( مجاهل التاريخ الحضرمي ) ويعني بها فترة ما قبل دخول المهاجر، ووقف في صف الأستاذ بلفقيه الأستاذ محمد بن هاشم والمؤرخ صالح بن علي الحامد والأستاذ علي بن شيخ بلفقيه ، وجاءت الجولة الثالثة من معاركه الفكرية مع المؤرخ صلاح البكري ( ت 1413هـ ) في كتابه ( تاريخ حضرموت السياسي) وأسهب في الرد عليه ، ودخل الحلبة مشارك جديد هو المؤرخ علوي بن طاهر الحداد حيث كتب مقدمة لرد الأستاذ بلفقيه ، وكرر النقاش مرة أخرى مع الأستاذ باوزير في كتابه ( صفحات من التاريخ الحضرمي ) فكتب الأستاذ بلفقيه رداً بعنوان
( الحياة الثقافية والمذهبية بحضرموت منذ وقبل قدوم المهاجر) وأعاد فيه قوله : أن فترة ما قبل دخول المهاجر هي من مجاهل التاريخ الحضرمي، وأثارته نقطتان في كتاب باوزير تتعلقان بالحياة الثقافية بحضرموت ووجود العلم والعلماء ، وكذا دخول ( المذهب الشافعي ) إلى حضرموت قبل قدوم المهاجر .
وجولة خامسة في كتابه ( جلاء الحقائق وتمحيص النقل ) وهو مناقشة لما ورد في كتاب ( صلة الأهل ) تأليف العالم الشاعر محمد بن عوض بافضل (ت1369هـ) وحصر النقاش في ترجمة والد العلامة سالم بن فضل بافضل وما أفرزته تلك الترجمة من القول بفضل المترجم له ووجود مشيخة ورئاسة للعلم في آل أبي فضل قبل اشتهار العلويين ، وقضايا أخرى ، فأطال الأستاذ عبد الله في سرد أدلته التي تظهر – حسب قوله – التناقض والتدليس وعدم الدقة في النقل لدى مؤلف ( صلة الأهل )، وهناك معركة أخرى ذهب بها بعيداً من حيث الزمان والمكان لكنها تدور حول ما يتعلق بالأنساب – وهو الموضوع الذي شغل حيزا كبيراً من أبحاثه – وأختار هنا العلامة عبدالرحمن بن خلدون ( ت 808هـ ) وما قرره فيما يسمى ( بالقاعدة الخلدونية ) التي وضعها لضبط عمود النسب وحاول الأستاذ بلفقيه نقضها ، وبعث في اتجاه آخر برسالة إلى الشيخ محمد بن أحمد الحجري تتعلق بلقب
( النفاط ) في بني عيسى النقيب، ووقف في صفه هنا العلامة عبدالرحمن بن عبيدالله السقاف والأستاذ محمد بن هاشم والمؤرخ الأديب صالح بن علي الحامد
وتظل مثل هذه النقاشات زادا لمن أراد أن يعرف حقيقة الكتابة في تاريخ حضرموت ودلالات هذا الصراع وفائدته في تتبع أوجه الصواب والخطأ ، كما إن فيه إشارات لمدى اهتمامهم بالبحث والتمحيص.
.