فرحة غامرة .. بهجة غير مسبوقة .. شعور جارف بنشوة النصر منحتنا مصر الجديدة ، وهي تعيش كل ذلك وأعظم .. مصر بدون حسني مبارك ولا طغمته ، وحُق لنا أن نتبادل التهاني قائلين (( مُبارك قلع مُبارك )) ربيعاً للغضب تستنشق عبير مروجه شعوبنا العربية ، عصراً جديداً لها كشعوب تعيش بكرامة ، تأبى الخنوع ، ويكن لها العز الذي تنشده ، امة تضع حد لطغيان من هم في سدة السلطة فيها أياً كانت ألقابهم : رؤساء ، ملوك ، أمراء .
تعيش كل ذلك وأكثر على وقع الثورتين التونسية والمصرية ، تصحو في كل صباح وتنام في كل مساء وهي تسمع وترى [ ثورة علهواء ] ، انه ربيع (الغضب) العربي ـ فنحن نعيش فصل الربيع و ذلك الغضب هو ربيع الشعب إن أراد الحياة ، وللكاتب الكبير محمد حسنين هيكل كتاب ( خريف الغضب ) ومنه استعرت الوصف ـ غضب عارم فاعل ايجابي على حكام طاب لهم الكرسي وإن اتهموه بأنه نار، حكام استمرءوا الاستبداد ونهب الثروات الخاصة بشعوبهم ، حكام لا يترددون في تحويل أوطانهم إلى خادم لمشروع الحركة الصهيونية في فلسطين ليحظى الحاكم و زبانيته برضاء سادة البيت الأبيض وغفلوا عن الحقيقة الكبرى أن شرعيتهم الحقيقية تكمن في يد الشعب لا أعداء الشعب ومصاصي دمائه .
دروس جديدة قدمتها الثورة المصرية للشعوب والحكام ليس في العالم العربي فحسب ، بل في كل أرجاء المعمورة .
لقد زلزلت الكلمات السحرية (( الشعب يريد إسقاط النظام )) الطغاة على عروشهم وأصابت سر الداء السياسي في دولنا في مقتل .
ومع مصر الجديدة وثورتها المجددة هذه الوقفات والتأملات :
الأولى : إسقاط رهانات الحكام :
لدى الحكام العرب على وجه التحديد رهانات عديدة راهنوا عليها للبقاء والاستمرار وممارسة نزوات الاستبداد ومصادرة الكرامة والوطن وبيع مواقفه في أسواق النخاسة العالمية لمن يدفع أكثر أو يسكت على جرائم الجاثم على الكرسي أو يضمن بقاء الكرسي تحت الزعيم المحنط أو شبه المحنط ، وهذه الرهانات التي أسقطتها :
1 ـ استحالة الثورة لان الشعب فاقد الحيلة ويأس ولن يدفع ثمنها من قتلى و جرحى وتعذيب بأقسى أساليب التعذيب و الإهانة .
2 ـ إمكانية التوريث ولو عبر انتخابات زائفة .
3 ـ تمازج الوطن والأسرة الحاكمة .
4 ـ تمازج و تماهي الوطن والحزب الحاكم أو حزب الحاكم .
5 ـ إبقاء سراديب العصابة الحاكمة في العتمة بعيدة عن الأضواء .
6 ـ إمكانية ممارسة الاستبداد وبدون حدود لقمع المعارضين من خلال جيوش الأمن الرئاسي .
7 ـ تأبيد الحكم أو إمكانية تمديده وتمطيطه بذريعة رغبة الشعب ( الجارفة ) أو بحجة ان الحاكم فلتة ويجب الحفاظ عليه في موقعه و بعد الثورة المصرية وقبلها التونسية أصبح تسقيف مدد الحكام ضرورة لازمة لا مناص و لا مهرب منها ، وأصبحت القاعدة (( خذ فترتك وامش محترم أحسن لك من ثورة تقلعك )) .
8 ـ الشعب مات ولا حراك فيه ، ولا خوف من ميت ، وبالتالي اصنع ما بدا لك ما دمت مطيعاً لسدنة البيت الأبيض و الحركة الصهيونية .
9 ـ القداسة المصنوعة المنفوخة المتصورة والمتخيل ثباتها وتحققها في قلوب الشعب عبر الصور في كل مكتب وزقاق وعمود كهرباء وعلى صفحات الصحف وعبر الأغاني الوطنية والتهاني الزائفة بمناسبات هي ملك الشعب أصلا وانفضاح الأبواق التي تطبل وتزمر للحكام الظلمة الطغاة العتاة كالقنوات والصحف الرسمية والكتاب المأجورين أمثال مجدي الدقاق و عبدالله كمال .
10 ـ انتخابات صورية ديكورية وفوز بنسبة 99% والذهاب بعدها لوصف الحاكم انه ديمقراطي ولا أروع ، و بذل وصف ( الديمقراطي ) أو (الشعبي ) أو (الديمقراطي ) على الحزب الحاكم أو توليفة من ذلك وغيره .
لقد فضحت ثورة 25 يناير المصرية مدى أكاذيب النظام المصري وزيفه وهو يخوض الانتخابات ويعلن فوزه الساحق الماحق ، وهناك أنظمة عربية مماثلة له لعل أوان افتضاحها قد أزف .
لقد دفع تلك الأنظمة غرورها ورهاناتها الساقطة تلك إلى ان لا تراهن على الرهان الحقيقي .. انه الرهان على الشعب بعد الرهان على توفيق الله و تسديده .
الثانية : للعزة ثمن :
أكثر من 300 شهيد تصدوا بصدورهم العارية ـ إلا من إصرارهم المتين على اقتلاع الدكتاتور والديكتاتورية ـ لرصاص قوات الأمن التي حاولت الاستماتة للحفاظ على حكم الطاغية ، شهداء أبرار قدمتهم مصر الكنانة لتتفلت من استبداد وطغيان حسني مبارك وابنه جمال ، و بعض اضطرابات و آلام رافقت الثورة ، وأضرار طالت الكثير من الممتلكات على يد عصابات آل مبارك ، وفي ذلك الجو حاول البعض ، ولا يزال ، النيل من ثورة الشعب المصري وتخويفه من عواقب ثورته والهشاشة المتوقعة لثمرتها و تخويفهم بل ذهب بعض ( الأكابر) يسمون الثورة الفذة بـ ( الفتنة ) في توصيف معيب يسير في ركاب الطغاة والطغيان أو على الأقل يمثل خور فيهم وتفضيلاً منهم لما يظنون أنّ فيه السلامة ، إنه (( لابد للأمة من ميلاد ولابد للميلاد من مخاض ولابد للمخاض من آلام )) كما قال المفكر الإسلامي المصري العملاق سيد قطب ، وهذا ما شهدناه ونشهده في مصر الجديدة ، و كما قال سيد كذلك أنّ (( ضريبة الذل أفدح من ضريبة الكرامة وأن تكاليف الحرية أقل من تكاليف العبودية وأن الذين يستعدون للموت توهب لهم الحياة وأن الذين لا يخشون الفقر يرزقون الكفاية وأن الذين لا يرهبون الجاه والسلطان يرهبهم الجاه والسلطان )) .
وقد قال الشاعر التونسي الفذ أبو القاسم الشابي :
وللأوطــان ِ فـي دم كل حر يــدٌ سـَلـَفـَتْ ودَينٌ مُستـَحـَقُ
ومَنْ يـَسقي ويشــربُ بالمنايا إذا الأحرارُ لم يُسقــَوا ويَسقـُوا؟
ولا يبــني الممالكَ كالضحايا ولا يـُدنِي الــحقوقَ ولا يُحِقُ
فــفي القتل ِ لأجيـالٍ حـَياة ٌ وفي الأسرى فدىً لهمو وعـِتقُ
وللـحُريِّةِ الـــحـَمـراءِ بابٌ بكـل ِ يَــدٍ مُضَــرَّجَـةٍ يُـدَقُ
الثالثة : الزلزال المصري :
صدىً مدوياً سيتركه سقوط حسني مبارك ونظامه ...آثار هائلة ، كبيرة ، رائعة ، ستكون لهذا الزلزال المصري .. الألق المصري على الأمة العربية عامة وعلى قضيتها الأولى على وجه التحديد ( القضية الفلسطينية ) التي كان لمبارك عليها أكبر اثر سلبي بعد تأثيره السلبي المريع على الساحة المصرية .
ولهذا كبرت وتكبر فرحة الأمة العربية لذلك السقوط المستحق لنظام كان رأس الحربة في مصادرة آمال الأمة العربية في التوحد والتقارب والشرف والكرامة .
سيتضرر ما يُسمى بمحور الاعتدال العربي و أيما ضرر ، سيفقد الغرب والصهاينة داعماً أساسياً وفريداً داخل مؤتمرات القمة العربية ، وفي المقابل مكسباً كبيراً سقوط مبارك لمحور الممانعة العربية ، و ألقاً جديداً سيشهده التكامل العربي والقارب على طريق تشكيل الاتحاد العربي الذي كان حسني مبارك اكبر المعترضين عليه .
الرابعة : هل يبزغ حكم الإخوان المسلمين ؟ :
لقد كان للإخوان المسلمين في مصر ـ كما الإخوان التونسيين ـ دور مقدر في الثورة يتضح ذلك من نهوضهم بمهمة الحراسات في الإحياء السكنية حين اختفت الشرطة غير مأسوفاً عليها ، ومن خلال حراستهم لمداخل ميدان التحرير بشكل خاص ، وبصمات الإخوان التنظيمية بارزة للعيان في كثير من تفاصيل الثورة ، ولذا وجدنا النظام المصري المتعفن المنهار لإقناع العالم ومنه الأحزاب والتيارات المصرية على ضعفها وديكورية بعضها ان أي انتخابات وديمقراطية حقيقية في مصر سيجني ثمرة ذلك الإخوان المسلمين ، ولعله قد تمكن من إقناع الكثيرين بذلك ، ولكنني أقول ان من يحسم هذا الأمر لا حسني و لا الناطق باسمه والمسبح بحمده ( عمر سليمان ) ـ سُمي نائب رئيس ـ ، ولا تحسمه أمريكا ولا الحركة الصهيونية ولا الحكام العرب المذعورين ، إنما يحسمه الشعب المصري الذي ثار ثورته العملاقة ، الدرس الذي كنا ننام ونصحو على إيقاعه العبقري ، الفذ لأسبوعين متتاليين محفوفين بالفرح والقلق ..الأمل والبشرى .
و ان النجاح النهائي للثورة لابد لأجله من كنس كل رموز النظام المتهاوي إلى مزبلة التاريخ دون إعطائهم فرصة لالتقاط الأنفاس .
ان الغرب وأذنابه ومنذ القديم لا يحرصون على شيء حرصهم على منع بروز أي نموذج حقيقي لحكم الإخوان المسلمين حتى لا يكون منارة تهتدي بها الشعوب المسلمة التواقة إلى استعادة الحرية والعزة والكرامة .
الخامسة : آن للملكيات أن ترحل :
لقد كان المشهور في عالمنا العربي ان تتحول الجمهوريات عملياً إلى ملكيات ، ولكن في اعتقادي ان الذي حدث في مصر وتونس يعكس هذا التفكير والطرح رأساً على عقب ، لقد آن الأوان لتختفي الملكيات في وطننا العربي لتحل الجمهوريات الحقيقية في كل الأرجاء ، إني أتساءل : من أعطى أولئك الملوك والأمراء الثروات المادية تحت السطح ؟ لا احد ، أم أنهم هم أوجدوها ؟ لا وألف لا ، وهذه الشعوب في دولهم متى امتلكوهم أو استعبدوهم وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا ؟ كانت مصر ملكية وسقطت فيها الملكية في 23 يوليو 1952م ، كانت ليبيا ملكية وسقطت فيها الملكية في الفاتح من سبتمبر 1969م ، كان شمال اليمن مملكة وسقطت في 26 سبتمبر 1962م ، و آن للملكيات المتبقية أن ترحل ، انه لابد من قدر كامل أو كبير من الديمقراطية وبالقدر الذي يعيد للناس حاجتهم الماسة للشعور بالكرامة والحرية ، وبما يضمن لهم الأمن الداخلي والعيش الرغيد ، إن الشعب هو صاحب المصلحة الحقيقية في الثروة والسلطة سواء كان الشعب يعيش في جمهورية أو ملكية .
السادسة : دماء جديدة للديمقراطية الكلية :
أثبتت أحداث مصر جدوى النموذج الغربي في الحكم الحديث ، وفضحت الخائفين من الديمقراطية مادامت ستفضي إلى نتيجة لصالح الإسلاميين ، أوليس انتخاب الإسلاميين هو حق للشعب إن أراد ؟ أم أنّ الشعب يصبح بذلك مجنون ، قاصر ، يستحق الحجر عليه بحرمانه هذا الخيار ، أم أنّ ذلك لا يصح وغير مقبول انتخابهم إلاّ إن كانوا متطرفين صهاينة على شاكلة الأرعن المعتوه أفيغدور ليبرمان .
مبدأ غير مكتوب مفاده لنرفض الديمقراطية ما دامت أنها ستأتي بأناس غير ديمقراطيين ، يا أخي ما هو انتم أثبتم أنكم مفلسين من الديمقراطية فلما تريدوا من الآخرين ما انتم فقراء منه [ فاقد الشيء لا يتبجح به ] .
و يبقى هذا الحديث رمياً بالغيب ، وحيلة قذرة سخيفة للحفاظ على السلطة ، لان أولئك المتلفعين بالديمقراطية يدركون أنّ الشعوب هويتها إسلامية و طبيعي أن تختار الإسلاميين إن أتيح لها انتخابات حرة ونزيهة ثم إن الإسلاميين سيحكمون الحكم الصالح الرشيد الذي سيجعلهم وباستمرار يحظون بثقة الغالبية من شعوبهم في المواسم الانتخابية ، وتركيا العدالة والتنمية خير مثال وبالتالي يثق أولئك الأدعياء الذين ينصبون أنفسهم أوصياء على الشعب أنّ اعتماد نهج الانتخابات الحرة والنزيهة تضمن خروجهم من السلطة وتضمن عدم عودتهم مرة أخرى ، فأولوياتهم غير أولويات شعوبهم .
لن تنتظر الشعوب ديمقراطية ينعم بها البيت الأبيض على الشعب مرغماً الحكام عليها ، بل ستهب لتصنع ديمقراطيتها بدون شروط الغرب وألاعيبه وتفضيلاته للأقرب إليه من الأحزاب والتيارات في أوطاننا .
السابعة : زعماء ينتهون بما يليق بهم :
ماذا لو لم يثر الشعب المصري ضد حسني مبارك و طغمته ؟ لاستمر مبارك معزز مكرم حتى يموت فتخرج الملايين الأسيفة تشيعه ، وتتسمر ملايين أخرى متأسفة أمام الشاشات لرحيل قائد الطيران الحربي في معركة الشرف العربي 1973 ، لو كان ذلك حدث لمنح أرفع الألقاب ولأصبح قبره مزاراً للجماهير ، ولكن جاءت الثورة المصرية وفضحت الفرعون المحنط و حرمته النهاية التي يعتقد أنها تشرفه وتليق به لينتهي النهاية التي تليق برجل مستبد متجبر مختلس لمال شعبه بل الذي كانت مصر في عهده مجرد بيدق في معسكر الحركة الصهيونية ، لقد كان نتيجة عناد حسني مبارك الذي قال عن نفسه أنّ لديه دكتوراه في العناد ، كان نتيجة عناده أن ديست كرامته وفي كل العواصم ، ولعل زعيماً سواه لم يتعرض لما تعرض له من إهانات ولعنات وفي الأخير أرغم على الرضوخ لرغبة الشعب الذي أراد الحياة ورحل متمنياً ان لو كان قد رحل قبل أن حل به من الإهانات ما حل .