الحتمية الثورية

تتحلى السياسة والسلطة السياسية بالفضائل بقدر القيم السلوكية الرفيعة المتبعة من قبل صانعيها وممارسيها والقائمين عليها ، وتتصف وتتسربل بالرذائل بقدر ابتعادهم عن معالم السلوك الإنساني النبيل و وقوعهم في مستنقع السلوك الشائن المتنافي مع القيم و الأعراف الإنسانية النبيلة ، و الإستبداد السياسي سلوك شائن وبذرة شيطانية لا تلبث أن تنمو في مجتمع أهل السلطة كلما غفلوا وغفلت الأمة عنها .

إنها بذرة عصية على الاجتثاث النهائي والأبدي ، إنها عقلية التملك التي قد تتطور عند أهل السياسة من تملك الخاص إلى تملك العام .. من تملك الماديات إلى تملّك الذوات ، ولذا كان لزاماً من وضع قيود صارمة لا تقبل الحلحلة و لا التليين لمنعها من الإنبات ، الاستبداد السياسي  بذرة لا تضر طالما بقيت في طورها ولكن حين تتفتق و يُسمح لها بالري والغذاء فإنها تمثل الطوفان القادم ليكتسح ويُدمّر الوطن بإمكانياته ومقدراته و يصطلي القائمين به وعليه بنيرانه ويذوق مراراته في ختام المطاف.

إنّ عوامل مجتمعة متى ما توافرت مثلت البيئة الخصبة لبذرة الاستبداد بالإنبات والنمو : أولها ضعف أو غياب أو تواري الرسالة لدى الحاكم أو السلطة الحاكمة ، فالحكم وسيلة لخدمة المجموع وهي غالباً شرف وتشريف وتكليف ، فمتى ما انتكس هذا الفهم وغدا المجموع في نظر السلطة و المتزلفين لها في خدمة الحاكم الفرد أو المجموعة الحاكمة كان هذا مؤشر خطر، ومتى ما غابت أو غُيّبت أدوات وطرائق المراقبة الايجابية القادرة على الفعل تنبيهاً وتذكيراً وتدخلاً ، ومتى ما تم تكريس الفرد كواحد زمانه وفريد أوانه وعجزت النساء ان يجدن بمثله !! فهنالك ثمة بيئة تتوافر لإنبات البذرة الشيطانية ، ومتى ما توسعت صلاحيات واختصاصات وممكنات الحاكم الفرد أو المجموعة الحاكمة متلفعة بشرعية ما ؛ كان هذا مؤشر خطر، ومتى ما أخذت القوة القاتلة الباطشة تتجه أزمّتها ويُسلم قيادها إلى يد واحدة فثمة خطر داهم ، وكلما تضافرت هذه المؤشرات فقد تهيأت لبذرة الاستبداد البيئة الأخصب للنمو والعنفوان.

إنّ وعي الأمة هو الدرع المانع للاستبداد أن تهيج شجرته ويشهر سيفه و ينشر خرابه و رجسه ، ولذا فانه متى ما نضج التوجه الاستبدادي فانه يتجه للمجموع ليستغفله أو يستنيمه أو يغرس فيه عقلية ونفسية القبول بنزوات الحاكم أو المجموعة الحاكمة باعتبارهم مصدر للخيرات المتتاليات !! وقداستهم تنفي عنهم الشرور ان تُحلق في سمائهم فكيف تُعشعشُ في قلوبهم البيضاء النقية !! لا بل جلالتهم سر النماء وكنز الوطن المكنوز وحصنه وملاذه الذي يجب ان يحافظ عليه ويسهر في خدمته و هدهدته !!. ومتى ما غفل المجتمع أو أُستنيم في الشقاء أو النعماء فقد توافر للاستبداد الشرط الموضوعي اللازم لإنجاح وتعضيد شرطه الذاتي.

وحينما يُسمح لتلك البذرة الخبيثة بالتفتق والنمو ويسمح لها بالري العذب والغذاء الدسم فإنها تكتمل حلقات الاستبداد فيتمكن من الأمة ، ينفرد الحاكم أو المجموعة الحاكمة بالوطن مزرعة خاصة والمواطن تابع رخيص لا كرامة له إلا بالقدر الذي يخدم الآلة الاستبدادية التسلطية ويسير في ركابها ، وهنا تُصادر حرية التعبير و يصادر حق الأنين وتسن لذلك التشريعات والقوانين ، بل وربما عُدلت الدساتير ، والى جانب ذلك إنفاق المال العام كلما كان مجدياً للإسكات وشراء الذمم وسُخرت الوظيفة العامة لجلالة الاستبداد ، وكلما مضى بالاستبداد الزمن كلما مضى الاستبداد يمتن صفه ليوم يُدرك حتمية قدومه ، ويُضعف جبهة الشعب وفي طليعته قواه الحية التي يتوقع منها المحذور وذلك ما وسعته الحيلة وسمحت له إمكانيات الوطن المادية والبشرية غير متردداً أن ينشر الفتن الداخلية و يُفسد الأخلاق والذمم ويُنشب الأزمات المتتاليات في جسد الوطن يوهنه ويشغله بها عن استبداده يتعزز و يمتد به عمر ما أبأساه !! ويطول به ليل ما أحلكه !!

وحينما تكتمل حلقات نظام الاستبداد تصبح الثورة الشعبية واجبة ولازمة وحتمية فلا فكاك من براثنه دونها ، يصبح لا غنى للوطن البتة من قومة ولا مفر للشعب إن أراد الخلاص من وقفة لا يعود منها إلاّ وقد لقي الاستبداد مصرعه .

وكلما تأخرت تلك الثورة لعدم نضوج أسباب تفجرها في وجه الاستبداد والمستبدين كلما نمت شجرة الاستبداد وترعرعت وانتفشت وعمقت جذورها وضاعفت متانتها وقدرتها على الدفاع عن نفسها من الإعصار الشعبي المعتقدة انه لا مفر من مجابهته إن قصر الزمن وان استطال لأنها عقلية تتناقض مع مصلحة المجموع صاحب الحق في السلطة والثروة وكلما حدث هذا و تأخرت الثورة في الاندلاع ، فجر الشعب في الانبلاج ، فان تكاليف اجتثاث هذه الشجرة الشيطانية الخبيثة ترتفع وتتضاعف ولكن مع هذا لابد منها .

وحينما يصحى المجموع وينفضوا عن تخاذلهم وصمتهم وتقاعسهم و يأسهم و استلابهم لوعي عام استجد وتمرّد أو شر نزل و زلزل اقترفته الآلة الاستبدادية الغاشمة بحق الشعب والوطن هنالك تكون الثورة الشعبية ،هنالك اكتملت شروط الشعب الذاتية لاندلاعها ، والشعب حين يثور ومعه قواه الحية في وجه الآلة الاستبدادية فانه يٌقدم في سبيل ذلك ـ و ما أجل ذلك ـ التضحيات الغاليات غير متردداً ولا يأساً من هدفه أن يتحقق ونصره أن يكون مظفراً ، وتلك التضحيات في جزء منها ثمن للسكوت الجمعي لآلة الاستبداد وهي تفتك وتُعربد بحاضر ومستقبل وطن ، وكلما ارتفعت تكلفة الخلاص كان هذا أدعى للشعب أن يستمسك بخلاصه فلا يُفرّط فيه فيظل يحرس نصره المظفر أن يختطف ثمرته قُطاع الطرق على الشعوب أن تزدهر و تتطور وتترقى وتنال عزتها و تعيش بكرامتها و أن تُزهر حقولها و توشّي الفرحة مروجها الخُضر.

إنّ الشعب حين يثور ثورته الحتمية فإنه لا يعود من ملحمتها ولا يضع لامتها ـ مع حفاظه الأبدي على روحه الثورية المكتسبة من رحيقها والمقتبسة من سناها وتوريثها للأجيال القادمة من بعد ـ لا يعود إلاّ وقد اوجد المناعة المكتسبة اللازمة والكافية لبذرة الاستبداد الشيطانية أن لا تعود للتفتق والنمو لدى الحاكم أو الحاكمين الجدد ، والضامنة لديمومة تحكمه في السلطة والثروة ، وأبدع ما توصلت إليه اجتهادات البشرية في هذا العصر في هذا السبيل الديمقراطية الكلية غير المنقوصة كآلة فعالة تتوافق مع كل القيم والمعتقدات والمُثل السائدة في المجتمعات الإنسانية ولا تتصادم معها ، لقد غدت هذه الديمقراطية ضرورة بشرية و فريضة وطنية وشرط لابد منها لوضع المجتمعات أقدامها بثبات وعزم على عتبة المستقبل المشرق والغد المزدهر ومواصلة مُضيها الجبار على دروب الخيرات والمسرات يجتنيها الوطن وبنيه في صباحاتهم المشرقة ببديع الصنائع و مساءاتهم المؤنقة بجليل الفضائل .

إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص