متعجلون في الخضم الثوري

الثورة هي تسريع حل لطلاسم طالما اجتهد صانعوها في حبكها وإحباط فكها وعملوا على صيانتها وتمتين نسجها ليستمر و يتعزز لهم الاستبداد ، الثورة هي خطوات الشعب العجلى إلى التغيير الميئوس منه والبعيد مناله ومتناوله لولاها .

      

ورغم ما في الثورة من روح الاستعجال و الاستئصال إلا أنها قد تحتوي في تيارها العام على متعجلين يريدون ان يستبقوا الفعل الثوري العام وأن يجنوا ثمار الثورة رغم أنّ  أوان قطافها لم يحن بعد ، وهم ينقسمون إلى قسمين : أشخاص عاديون في النسيج الثوري وعادة يتصفون بما يلي :

1 ـ ضعف أو انعدام الثقة في القيادة الثورية الفعلية.

2 ـ تعتريهم روح العجلة والاستعجال.

3 ـ سؤ تقدير للواقع الذي تتخلّق وتعمل فيه الثورة مع محدودية الأفق.

4 ـ نفس قصير مع عدم استعداد لاستمرار في إصرار على الصبر .

5 ـ الضيق بالرأي الآخر واحتقار أصحابه وبالتالي عدم الاستماع إليه مهما كان وجيهاً.

 

و القسم الثاني هم من يحضون بنوع كاريزمية وتأثير في النسيج الثوري و يتصفون بالإضافة إلى ما سبق بما يلي :

1 ـ عقلية ونفسية استبدادية .

2 ـ إعجاب بالرأي وغرور مستبطن بالذات وقد يكون نتيجة لثقة زائدة أو مدح مُزري بصاحبه.

3 ـ حب الظهور و التصدر و الزعامة وانجذاب لبريق الشهرة .

4 ـ الوقوع في براثن مسايرة المتعجلين.

5 ـ ضعف الشعور بالمسؤولية تجاه الثورة والوطن.

      

لكل ثورة قيادة تفرزها ساحاتها والواقع الذي يصنعها ، ولابد لتحقيق الانتصار من رص لصفوف الثوار وتنظيم لقوتهم الثورية وشكيمتهم الثائرة حتى لا يذهب هذا هباء منثوراً بفعل النفسية الاندفاعية وحتى لا يتمكن الاستبداد من تشتيت الصف الثوري بدسائسه و مندسيه وإشاعته المتجددة المتتالية المحبوكة المطبوخة بعناية في أحيان كثيرة وهناك طابور من الناس السلبيين يلتحقوا بكتائب المرجفين الرسميين بادراك منهم أو غير إدراك ، ولتحقيق هذا الارتصاص يكون لزاماً من قيادة ثورية يأتمر بأمرها الصف الثوري ، قيادة تضمن تحقيق الدفع المنظم بقوى الثورة وتكويناتها وتشكيلاتها ، ومن اجل تحقيق الانضباط التام لأوامر هذه القيادة لابد من ثقة فيها فبدون الثقة تصبح أوامرها وقراراتها محل شك وتشكيك سرعان ما يتسلل إلى الصف الثوري ليضعف متانته ويقضي على تأثيره الهائل حتى تفشل الثورة أو تزيد تكاليف انتصارها ، والعكس صحيح فكلما ازدادت ثقة الصف الثوري في قيادته كلما كان أمتن واقدر على مجابهة التحديات .

 

ومن نافل القول ان الثقة ليست عبثاً من الأمر والاعتقاد ولكنها نتاج للنجاح القيادي المتحصل بمرور الزمن والمتكون في شخوص القيادة وهي تتبوأ هذه المكانة الرفيعة ولابد للقيادة لتحقق النجاح تلو النجاح من تشاور بين أفرادها وتداول للرأي قبل اتخاذ القرار في المسألة الواحدة  بل وفي أحيان العودة إلى الصف الثوري لاستشارته في المسائل الفاصلة ، ومن نافل القول ان الثورة ترفض أن تُساس بعقلية استبدادية تسلطية .

              

ومما يوهن الثورات الاستعجال في قطاف النصر قبل أوانه و اكتمال عوامل تحقيقه ، و الشخصية المتعجلة قد يحولها استعجالها من عنصرايجابي في النسيج الثوري إلى عنصر سالب قد يجر الثورة أو بعض نسيجها إلى

التهلكة  ويتسبب لها بالتشويه ويعطي خصومها ذريعة مقبولة عند البسطاء للنيل من الثورة .

     

إنّ الاستعجال غالباً ما يكون رفيقاً للندامة و الخسارة فهما قرينان وقد قيل : في العجلة الندامة وفي التأني السلامة ، وقيل : من تأنى نال ما تمنى و قيل: من استعجل شيء قبل أوانه عوقب بحرمانه ، والاستعجال صفة جبلية في آحاد الناس قال الله تعالى ((خُلِقَ الانْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آَيَاتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ (37) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (38) لَوْ يَعْلَمُالَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ

وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلاهُمْ يُنْصَرُونَ (39) بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (40) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ )) . 

 

وفي الحديث عن خباب بن الأرت قال: قلنا يا رسول اللّه ألا تستنصر لنا ، ألا تدعو الله لنا فقال: (إن من كان قبلكم كان أحدهم يوضع المنشار على مفرق رأسه فيخلص إلى قدميه ، لا يصرفه ذلك عن دينه ، ويمشط بأمشاط الحديد ما بين لحمه وعظمه ، لا يصرفه ذلك عن دينه) ، ثم قال: (والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت ، لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه ولكنكم قوم تستعجلون) رواه البخاري.

قال القطامي:

قد يدرك المتأني بعض حاجته ... وقد يكون المستعجل الزلل

     

إنّ النصر لا يتأخر ولكنه يأتي في وقته تماماً ، والتأخر الظاهر في النصر ظرف يشجع على بروز العقليات والنفسيات المتعجلة و حدوث آثارها السلبية مالم يتم التيقظ إلى هذا المنزلق .

ان النصر حتمية ثورية ولابد من اليقين به ويجب أن لا يسمح كل ثائر وكل ثائرة بخفافيش اليأس أن تحلق فوق رؤوسهم فحينها قد يصبح احدهم عامل تعويق في الصف لا دفع ، قد تكون التكاليف باهظة وقد يتأخر النصر نسبياً عن موعده المتوقع بالنظر إلى مكونات الواقع ورسومه وقد تواجه الثورة قوى لم يكن بالحسبان موقفها المناوئ وقد تتخلى عن نصرة الثورة قوى كان المؤمل فيها تعضيد الثورة ، قد يعلو نباح كلاب الاستبداد و تشتد سياطها على الجسد الثوري في ظل ذلك كله يجب أن لا يخبو روح التفاؤل بالنصر الثوري المظفر مع استيقاظ لعوامل النصر أن تتكامل وتتحقق في الصف الثوري.

 

ومما ينبغي للثوار إدراك واقعهم الذي يعملون فيه بصورة تجعلهم أكثر اطلاعاً على القوى الفاعلة فيه وموازين القوى ، ففقههم للواقع يساعدهم على التعاطي الصحيح معه ويوقفهم على الإمكانيات الحقيقية للثورة في مرحلة ما ، وإمكانيات أعدائها والإمكانيات المحايدة التي قد توجد في لحظة ما وإمكانية كسبها للصف الثوري من عدمه ، وهذه المعرفة تقي الصف الثوري من الطوباوية و اللا واقعية في تقدير قوته والقوى الأخرى الموجودة في الواقع في الوقت الذي قد يكون على الصف الثوري المزيد من الصبر لتغيير ميزان القوى لصالحه والوقت جزء من علاج الخلل الحاصل وقد يكون للثورة ما يكفي لحسم الموقف بقوة الثورة الباطشة ولكن قد يكون بإمكانها إحراز النصر بتكاليف اقل في صفها وفي صف الوطن التي تُناضل لاستنقاذه من براثن الاستبداد والتسلط والارتزاق ولكن بوقت أطول وصبر امتن وبالتالي فان حقن دماء الصف الثوري والوطن عموماً أولى بالثورة والصف الثوري .

    

إنّه لابد من أن يتسلح الثوار بالصبر ومغالبة عدوهم ومنازلته في ميدان الصبر ، ومن يكسب معركة الصبر تكون له الغلبة مهما قصر الزمن اللازم لاكتساح دولة الباطل ، إنّه لابد من الصبر والصبر قرين الظفر، إنّ الثوري أكثر من أي شيء آخر هو إيمان بالهدف وقدرة على الصبر على مكاره العمل الثوري بتنوعها من تعرض للإصابات والاعتقال والأذى النفسي بالإضافة إلى حاجته للتضحية بالوقت والراحة الجسدية إنها تضحية لصالح مجموع أبناء الوطن إنها تضحية لإعادة مجد الوطن المُفدى بالروح والدم ، وليست الثورة مجرد بعض الوقت الذي قد يطول وقد يقصر ، فالثورة ليست مقاولة لابد من انجازها في وقت محدد له بداية وله نهاية ولكن الثورة عمل بطولي يخوض نبلائه معاركه حاديهم نشيد النصر و ترانيم الغد المشرق دون تقاعس بل بهدير مستمر ومتصاعد للآلة الثورية في كفاح لا يعرف الآح حتى انجاز النصر .

 

والثورة لا تعمل في الفراغ ولكن في واقع لابد من تذليله لصالح المد الثوري ، إنّ القضاء على التسلط والاستبداد لا تكون على الإطلاق مهمة سهلة ولا متيسرة إلا للغالبية الشعبية الواعية القادرة على الصبر ، إنّ إزالة الظلم يحتاج إلى دفع ضريبة بليغة قدر تجذره ، وهي في الوقت ذاته مهر العزة القعساء ، ولا يتردد من حسموا خيارهم بالحل الثوري في دفع هذا وبدون تردد ولا تضجر، إنّ النصر في حاجة إلى إرادات صلبة تستعذب الصمود في وجه التحديات.

 

إنّ الإعجاب بالرأي و إتباع الهوى و العزوف عن استشارة الآخرين ، و لو كانوا من أهل الفطنة والحصافة والدراية ، مقدمة للانحراف عن الجادة وقد قيل ((ما خاب من استشار وما ندم من استخار)) ، والرأي الواحد في جماعة العاملين لا يكون البتة انضج من رأي المجموع  ولذا يجعل أهل السلطة لهم المستشارين من المتخصصين ومن أصحاب الخبرة و الكياسة و ليس هذا يعيبهم بل يعيبهم ان لا يجعلوا لهم مستشارين أو ان لا يصغوا إلى استشارات أهل الرأي والحكمة ، و كلما زاد تأثير الشخص على المجموع كان أحوج إلى الاستشارة ، بل والناضجين من الناس من يستشيرون  من يتوسموا فيهم الرأي الناصح حتى في بعض شؤونهم الخاصة كالدراسة و العمل والزواج .

     

قامت الثورة ضد الاستبداد و التسلط ولكن قد يحاول بعض الصف الثوري وخصوصاً من البارزين فيه ممارسة نوع جديد من الاستبداد وباسم الثورة هذه المرة !!  فيحاول هذا البعض جرف الثورة إلى خياراته التي قد تكون بسبب غياب الفقه الصحيح بالواقع أو غرور حاصل بفعل المديح الذي حذر منه ومن مغبته سيد الخلق حين قال في الحديث الصحيح ((احثوا في وجوه المداحين التراب)) و هذا يدفع إلى التشبث بالتواضع والتدثر بدثاره من قبل الموفق ، و الاقتصاد في المديح  من قبل الآخرين حتى لا يقع الممدوح أولاً في المحذور من غرور و تكبر ونرجسية والتوقف عن الانجاز وادعاء الكمال في العمل و وجاهة الرأي و القدرة على التأثير واعتقاده أنّ في غيره النقص وانه أصبح محسود منهم لمكانته في القلوب ونحو هذا من التفكير الهدام للشخصية التي يرتجى منها الخير للثورة والصف الثوري ، فيتحول بهذا وبامتياز  من عنصر ايجابي في الجسم الثوري إلى عنصر سلبي لا يُرتجى ولا يُتوقع منه إلا ما لا تُحمد عُقباه وقد قيل (( الغرور مقبرة النجاح )).

 

و من المهم  محاولة تدارك مثل هذه الحالات بالتذكير والنصح حين يكون هذا مجدياً و بمواجهة هذا العنصر بأخطائه وانتقاده والتحذير من ممارسته فلا يصح السكوت على هكذا ممارسة لان السكوت لم يعد مجدياً..وعلينا أن نتعلم النقد والنقد الذاتي فنمارسه ونتقبله كممارسة جميلة من الممارسات التنظيمية في الفكر الاشتراكي .

         

إنّ العمل القيادي وسط الجموع يحتاج إلى عقلية ناضجة ونفسية متزنة بحيث يحافظ على زمام الأمور من الانفلات وسط صيحات الجموع المتعجلة والمتقلبة المزاج ، إنّ القيادة هي التي تقود ـ دائماً ولا تنقاد ـ المجموع إلى الهدف الذي ينشده ذلك المجموع وبكل تفان وحرص بنّاء لا هدام وإخلاص وتجرد ونكران ذات ، وهي تمتاز عن المجموع بادراك أكثر للواقع وتفصيلاته و خبرة في تدبير الشأن العام و ذكاء وسرعة بديهة و حضور آسر وربما إمكانيات مادية وبشرية ، والقيادة قد تكون فرد أو مجموعة أفراد أو تنظيم أيدلوجي أو تكتل قيادي أو توليفة من هذا كله يضبط إيقاعها مصلحة المجموع المتأكدة لا المظنونة والفقه بالواقع وإدراك عوامل التأثير الداخلية والخارجية مع حرص على تحقيق الهدف بأقل التكاليف ، وقد يحصل في القيادة الخلاف ولكن حسمه ينبغي أن يكون داخل الصف القيادي وبطرق ديمقراطية ، ومن يخرج عن الإجماع الداخلي فانه يصبح خطر ينبغي الحذر والتحذير منه فمصلحة المجموع أولى بالتقديم من مصلحة الفرد أو القلة ، و

المجاملات من شانها فقط التفريط وإهدار الجهود وفي أحيان تعثر المسير نحو الهدف.

      

إنّ القيادة فن وشعور بالمسؤولية ، وهي في حاجتها إلى الشعور بالمسؤولية هي أحوج منها للماء والنفس ، فانعدام الماء والنفس عنها من شانه فقدان الصف الثوري لقيادي سيجود الصف بغيره ولكن انعدام الشعور بالمسؤولية قد يودي بالصف بأكمله بما فيه القيادي نفسه فماذا يغني عن صف تتناوشه المتالف والمهالك .

 

ولذا لابد من شعور بعظم تبعة القيادة فليست القيادة مغنم وإنما مغرم ومتى تُفهم القيادة أنها مغنم فيصبح صاحبها مُسخر للمجموع لخدمة مصلحته وبريقه ولمعانه وتنقلب عنده الموازين ويُصبح ينظر للعمل الجماعي كخادم له بدلاً من كونه هو الخادم للمجموع و(( سيد القوم خادمهم))  لا مستخدمهم .

         

حين تندلع الثورة فهي تتبنى الوسائل التي ينعقد بها النصر والانتصار ، إنّ الثورة حين تندلع تندلع بوسائلها وتبقى للإبداعات الفردية مجال متاح ومساحة مفتوحة ولكن في نهر الثورة المضطرد ولا مجال لاجتهادات فردية تناقضها وتخالفها وتُعرّض مسار الثورة للمتالف وصفها للهلاك ، يمتلك الصف الثوري طاقة هائلة للتضحية بكل غال ونفيس ولكن لا تذهب تضحيات الثوار إلا إلى مكانها الحتمي الذي يقره القرار الجماعي المتبصر لا الاجتهاد الفردي المتعجل ، قد يحاول أعداء الثورة اقتحام ميدانها بصنائع لهم يحاولون اجتذاب شريحة من الثوار والمتحمسين منهم على وجه الخصوص إلى ساحات نزال جانبية لضرب الثورة وإثارة البلبلة في صفوفها وإضعاف روحها المعنوية فيجب الحذر من هؤلاء الصنائع أن ينسربوا إلى جسم الثورة والحذر منهم ان ينصاع لهم من الجسم الثوري من يحقق مآربهم وينجح كيد سادتهم أعداء الثورة .

إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص