بأي ذنب قتلتموه .. ؟!

لو قُدر لكل من قُتل أو اغتيل غيلة وغدراً أن يسمع القاتلون شكاة أهله قبل قتله بلحظات لكان لهم رأي آخر، ولكان أكثرهم قد نجا من الموت المحقق، كيف وهم يعيلون أسراً وعوائل، ولديهم أطفال صغار وأبوان أو أحدهما قد بلغا من الكبر عتياً يعزّ عليهما ألم الفراق لحاجتها لفلذة كبدهما يبرهما ويقوم عليهما بالرحمة والرأفة قبل الممات.   ذكّرني ذلك بما نشرته قبل ما يقرب من العام إحدى الصحف اليمنية لتفاصيل قصة مؤثرة لجندي نجا من الموت المحقق ، بعد أن قررت عناصر تنظيم القاعدة إعدامه ذبحاً في حضرموت واقتادته الى مكان عام لتنفيذ عملية إعدامه ، حيث تراجعت تلك العناصر عن ذبحه ، وقررت إطلاق سراحه قبل لحظات من تنفيذ الإعدام، وذلك على اثر اتصال هاتفي من والدته.   كان حديث والدته عبر الجوال مؤثراً للغاية فمما قالته له ثم لجلاديه في تلك اللحظات الحرى : " حرام عليكم , حرام عليكم .. هو ما بقي لي في هذه الدنيا لمن تتركنا أني وشقيقاتك "، كان الجميع يستمع وبصمت إلى حديث الوالدة التي قالت : " اتركني أتحدث مع من يريد إعدامك ", فأشار الأمير إلى من كان يمسك الهاتف بالرفض.   خاطبها ابنها المكلوم بحرقة قائلاً : " يا والدتي اسمعيني ولا داعي فلا فائدة من أي توسلات اسمعيني" إذ كان يريد من أمه أن تسمع وصيته، لكنها رفضت إلا أن تتحدث مع الأمير، فقال لها الآن هو يسمعك فرفعت صوتها وهي تجهش بالبكاء وقالت مخاطبة الأمير بما معناه : " أستحلفك بالله الذي لا إله إلا هو أن تعفو عن ولدي فلذة كبدي ونور عيني، من لي سواه أنا وأخواته , ليس لنا من عائل غيره، ما الذي ارتكبه ؟؟، إذا كنت مسلم وتشهد أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله فإنني امرأة وحيدة ونحن نساء في هذا المنزل ليس لنا من يحمينا أو يوفر لنا قوتنا سوى (…)، لا تحولوا ما تبقى لي من أيام في حياتي إلى جحيم، أستحلفكم بالله أستحلفكم بالله اتركوني أفرح بولدي فزواجه بعد أيام , أستحلفكم بالله " وكررتها عدة مرات.   شده الجميع أمام كلمات بل آلام تلك الأم المسكينة، ولشدّ ما تعجبوا حينما رأوا الدموع تذرف من عيني الأمير الذي أجهش بالبكاء فأجهش كل من حوله بالبكاء بعده، واسقط السكين من يده من كان مكلفاً بإعدامه.   تقدم الأمير نحو الجندي وأخذ سماعة الهاتف وصوت الأم مازال يُسمع, ثم تنهد الأمير تنهيدة حارة ومسح من عينيه الدموع و تحدث إلى الأم قائلاً : " اسمعي يا والدتي والله أن حديثك لو ألقي على حجر لفلقه إلى نصفين، نحن مسلمون ونحارب من يعادي الإسلام والمسلمين، وأعدك وأعلن للجميع بأننا قد عفونا عن ولدك، وسوف يصلك معززا مكرما " .    أغلق الأمير سماعة الهاتف وأمر جماعته بإلغاء تنفيذ حكم الإعدام وأمر من كان في ساعة الإعدام من المواطنين بالانصراف , وفي تلك اللحظات لم يتمالك الجندي نفسه ـ كما حكى عن نفسه ـ  من البكاء إذ كان غير مصدق بما حدث بعد ان كان على شفير الموت وعلى شفا لحظات من الذبح.   للإنصاف والحق فلقد استفدتُ من تلكم الحادثة أن القوم يملكون قلوباً يمكن أن تطرأ عليها الرحمة والشفقة، بالرغم مما نشاهده على أيديهم من الدماء والخراب، وتساءلت في نفسي : هل يمكن أن يستيقظ في دواخلهم تقدير حجم المعاناة التي يمكن أن يعانيها ذووا من يقتلونهم كما استشعروا آلام تلك الأم المنكوبة ؟ ، لكن بالمقابل ألا يحس من فقدوا أبناءهم أو آباءهم أو عائلهم أو رب أسرتهم أن هؤلاء قد نُزعت من قلوبهم الرحمة ؟، ولو أتيح لهم أن يسمعوا منهم أكانوا فرقوا بينهم أو حرموهم من أحبابهم ؟   وفي غمرة هذه الخواطر والآهات تذكرت الشهيد العميد الركن علي بن فريجان الذي استشهد يوم الجمعة الحادي عشر من أكتوبر 2013م، هذا الرجل الإنسان الذي تألق في كل شيء؛ تألق في عطائه ورحمته وصلاحه واستقامته وبره بوالده ورعايته لأسرته وأبنائه ورحمه، وحتى في تشجيعه للآخرين على العطاء والتميز، وأنا إن نسيت فلا  أنسى في هذا المقام كم كان الشهيد يكيل لي الكثير من المديح والثناء إن قرأ شيئاً من كتاباتي أو مقالاتي المتواضعة، فكان إطراؤه وتشجيعه ودعمه المعنوي لي يمدني بالكثير من الشجاعة والإصرار للمضي نحو التميز والإبداع، ولي وقفات جميلة مع ذلك الإنسان ولولا خوف التطويل لأفضت وأسهبتُ.   أقول ذلك كله وأحكي هذه الأسطر لمن يزعمون أنهم يحاربون الفكر بالفكر ويواجهون الحجة بالحجة، لا الفكر بالدم، لماذا لم يحاوروا هؤلاء الضحايا قبل قتلهم ؟، أما كان الأولى بهم ـ إن كانوا منصفين يخافون الله ويتقونه في الدماء ـ أن يسمعوا منهم حجتهم قبل اغتيالهم؟ ، ربما هم مكرهون أو لديهم من الأعذار والحجج ما يناقض تصورات من يرونهم مارقين عن الإسلام ؟، ومن الحق أن أقول هنا أنهم لو فعلوا ما أقول لتبين لهم الكثير مما يخفى عليهم، ولربما أعادوا النظر في مسألة القتل، ولكان الأبناء يلهون مع آبائهم، والزوجات فرحات بأزواجهن المفعمات بحبهنّ، والوالدين ينظران في رحمة لفلذة كبدهم الذي يبجلهم ويجلهم ولا يرفض لهم طلباً، ولغابت إلى غير رجعة مفردات الرثاء وكلمات الأسى من أفواه هؤلاء البؤساء.   للأسف الشديد لقد ضاع الأمل بلا عودة، وداخل اليأس النفوس، وغادرت الأرواح مساكنها وفارقت الأنفس الطيبة أحبابها إلى يوم الحساب، والسؤال الذي لا يزال يلحّ عليّ ولم أجد له إجابة أو تفسيراً إلى اليوم، وهئنذا وأطرحه عليهم : كيف بمن حكمتم عليه بالمروق من الدين أن يغادر هذه الحياة بابتسامة وضيئة وسحنة ترى بين أعطافها الطمأنينة والرضا، وتدرك أنوار الشهادة باديةً على محياها، كيف لذلك أن يحدث كما حدث للشهيدين العليين علي بن سالم باوزير وعلي عمر بن فريجان ؟!!. كانت الشمس على وشك الغروب عندما انتهيت من كتابة هذه التساؤلات ..

إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص