في زمن الضجيج والتشظي السياسي، قليلون هم من يملكون جرأة الكلمة ووضوح الرؤية، ومنهم فتحي بن لزرق، الذي كتب مقالاً لامس فيه جوهر الأزمة اليمنية وعرّى أوهام الانفصال التي باتت تُسوّق كأنها الخلاص، فيما هي في الحقيقة بوابة فتنة كبرى ومزيد من التمزق.
لقد أصاب بن لزرق كبد الحقيقة حين قال إن من ينادي بفصل الجنوب عن الشمال يفتح باباً لا يُغلق، لأن الجنوب ذاته ـ كما أشار بدقة ـ لم يكن يوماً كياناً موحداً، بل تاريخياً كان خليطاً من السلطنات والمشيخات، وكل منها لها هويتها ومشروعها الخاص، واليوم، يتكرر المشهد ذاته، فبينما البعض ينادي بفك الارتباط مع الشمال، إذا بنا نسمع أصواتاً مماثلة داخل الجنوب ذاته، أولها من حضرموت، ثم المهرة، وربما القادم أعظم!
حضرموت اليوم ليست تلك التي يُراد اختزالها أو التحدث باسمها من نوافذ ضيقة، بل هي حضرموت الواعية، الراسخة، الممتدة بتاريخها وثقافتها، التي شبّت عن الطوق، وتعرف جيدا ما تريده: كرامة، إدارة ذاتية عادلة، تنمية مستقلة، ولكن في إطار دولة يمنية واحدة، تضمن العدالة وتكافؤ الفرص.
أولئك الذين يبيعون الوهم ويُغذّون مشاعر الانفصال يجهلون أو يتجاهلون أن مشروعهم إن تحقق ـ لا قدر الله ـ فلن ينتج دولة، بل فسيفساء متناحرة، وسلطنات صغرى تعود من باطن التاريخ لتُحكم في زمن المستقبل.
لا أحد يرفض أن تُحكم كل محافظة بأبنائها، وأن تُمنح صلاحياتها كاملة، ولكن ذلك لا يعني نحر الوطن من الوريد إلى الوريد، الحل ليس في التمزيق، بل في التوافق، في بناء دولة عادلة يتساوى فيها الجميع، لا في تسويق الوهم، ولا في البحث عن راعٍ خارجي لكل كيان ناشئ.
فليُسمع هذا الصوت الصادق.. ولتُقرأ كلمات بن لزرق جيداً، فهي ليست مجرد رأي، بل جرس إنذار لكل عاقل، بأن لا يندفع خلف السراب، ويترك الوطن للمجهول.
حضرموت ليست ورقة في يد أحد، ولا سلعة في سوق المشاريع الصغيرة.. حضرموت تعرف الطريق، وتمضي فيه بثقة: نحو المستقبل، لا الماضي.