إن الله سبحانه وتعالى جعل قداسة الدين والعقيدة فوق كل شيء, فلا قيمة للأرض والوطن والمال إذا كانت العقيدة وشعائر الدين مهدرة, ولذا فرض الله على عباده أن يضحوا بكل ذلك.
وقد اقتضت سنة الله في الأرض أن تكون قوة الدين والعقيدة هي الحافظة للمكاسب المادية, فمتى كانت الأمة ثابتة على خلقها السليم, متمسكة بدينها القويم, فإن سلطانها المادي المتمثل في الوطن والمال, يكون أكثر تماسكاً, و أرسخ بقاءً, ومتى كانت فقيرة في أخلاقها, مضطربة في عقيدتها, فإن سلطانها المادي سيكون أقرب إلى الاضمحلال والزوال, والتاريخ خير شاهد على ذلك.
ومن أظهر الأدلة الواقعية في التاريخ الإسلامي على هذه الحقيقة حادثة الهجرة النبوية من مكة إلى المدينة, على صاحبها أفضل الصلاة والسلام, فلقد كانت بحسب الظاهر تركاً للوطن و تضييعاً له,لكنها كانت في الواقع حفاظاً عليه وضمانا له.
و الهجرة النبوية – على صاحبها أفضل الصلاة وأتم التسليم – كانت قصة حياة, و معلم هداية للأمة بما حوت من الدروس والعبر, والأسرار والنكت, التي تضيء طريقها, وتؤمِّن مسيرتها في سفرها الطويل إلى الله, وسنقف بإذن الله تعالى بعض الوقفات مع قصة الهجرة خلال هذه الأسطر.
الوقفة الأولى:
ما كان يتعرض له رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون في مكة من فتنة الإيذاء والتعذيب, و ألوان السخرية والاستهزاء, اضطرت الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ إلى الهجرة, و بعد ما أذن لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالهجرة إلى الحبشة, و حينها أصبحت فتنتهم في ترك الوطن والمال والدور والمتاع, ولقد كانوا أوفياء لدينهم قابلوا المحن والشدائد بالصبر والثبات والعزم, و هذا هو نموذج المسلم.
الوقفة الثانية:
اختيار الأرض للهجرة إليها, وهذا يستلزم معرفة طبيعتها من حيث الاستقرار, و الأمن ونحوهما.
ثبت عنه صلى الله عليه وسلم انه قال: ( رأيت في المنام أني أهاجر من مكة إلى أرض بتا نخل, فذهب وهلي إلى أنها اليمامة أو هجر, فإذا هي المدينة يثرب ) رواه البخاري ومسلم, وقوله ( وهلي) أي وهمي.
فبعد أن هيأ النبي صلى الله عليه وسلم للأمر منذ سنتين خلت في العقبة الأولى والثانية, و بايعه الأنصار على الإسلام والنصرة له و لمن تبعه من المسلمين, أمر أصحابه بالهجرة و اللحوق بإخوانهم الأنصار فقال: ( إن الله جعل لكم إخواناً و داراً تأمنون فيه ) فخرجوا أرسالاً و أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة.
و هذه الكلمة قِيل مثلها من رسول الله صلى الله عليه يوم دعاهم للهجرة إلى الحبشة (إن بها ملكاً لا يظلم عنده أحد ), و لكن الفرق بين المركزين واضح, فالمدينة أختيرت لتكون مركزاً مستقراً للدعوة إلى الإسلام؛ لقرب موقعها من مكة فهي قادرة على خنقها اقتصادياً أمّا الحبشة فهي بعيدة ولا تصلح, كما أن الاعتماد على الحاكم العادل هناك والذي قد يتغير في أي لحظة.
الوقفة الثالثة:
استبقاء أبي بكر الصديق رضي الله عنه دون غيره ليكون رفيق النبي صلى الله عليه وسلم في الهجرة, وهذا يكشف مدى محبة النبي صلى الله عليه و سلم لأبي بكر رضي الله عنه, و تقديمه على غيره من الصحابة, و أنه أولاهم بالخلافة, كما دلت على ذلك أدلة اخرى كتقديمه للصلاة في مرض النبي صلى الله عليه وسلم, و قوله: ( لو كنت متخذاً خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً... الحديث ).
ولقد كان أبو بكر على مستوى تلك المزية, فقد سبق رسول الله صلى الله عليه وسلم في دخول الغار, وه الذي جند أمواله و أهله و خدمه في خدمة رسول الله صلى الله عليه وسلم, وهذا هو الحال الذي ينبغي أن يكون عليه حال كل مسلم, قال عليه الصلاة والسلام: ( لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه وولده ووالده والناس أجمعين ).
الوقفة الرابعة:
وجوب نصرة المسلمين لبعضهم مهما اختلفت الديار والبلاد, وقد اتفق العلماء أن المسلمين إذا قدروا على استنقاذ المستضعفين, أو المأسورين, والمظلومين, من إخوانهم المسلمين في أي جهة من الجهات, ثم لم يفعلوا فقد باؤا بإثم كبير. كما نص على ذلك ابن العربي المالكي رحمه الله.
الوقفة الخامسة: عبقرية التخطيط البشري في الهجرة ماذا يعني ؟
لقد ظهر التخطيط البشري للهجرة على أعلى مستوياته, ـ وهو مما يملكه البشر ـ و مع ذلك فقد وقف الكفار على باب الغار, و أدرك الفارس سراقة بن مالك ركب النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه, ولكن النبي صلى الله عليه وسلم كان في هاتين الحالتين على درجة من الأمن والطمأنينة لم يصل إليها بشر في الأرض, أي أنه وقف بين يدي عدوه, ولم يخفه ذلك.
و هنا درس عظيم لابد أن يؤخذ وهو انه عندما تجتمع قوى الأرض على حرب المسلم والمؤمن, فإن الله ناصره, قال تعالى: (إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ), وقال: (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِين) , وهذا يعني بالنسبة للمسلم الآتي:
• ضرورة الأخذ بالأسباب, والموازنة بينها وبين التوكل, فإن إمام المتوكلين ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان توكله بعد أخذه بالأسباب, وحين أتى بالأسباب, ووقعت المحنة في شيء خارج عن إرادته و طاقته, كانت ثقته بالله لا تُحَد, و تحول الفارس الفاتك إلى صديق.
• ان جنين النصر لا يولد إلا في رحم الابتلاء, و إن الثقة بالله و بنصره من أهم عوامل تحصيل النصر, و قد ظهرت هذه الثقة في قول النبي صلي الله عليه وسلم لأبي بكر ( ما ظنك باثنين الله ثالثهما), و قوله لسراقة ( كيف بك ياسراقة إذا قلدت سواري كسرى).
الشيخ أحمد عوض بازهير