أيها الإخوة المؤمنون :
تعالوا بنا نعيش في ظلال الحديث النبوي
الشريف والذي رواه النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ :
قال صلى الله عليه وسلم (( مَثَلُ الْقَائِمِ عَلَى حُدُودِ اللَّهِ
وَالْوَاقِعِ فِيهَا كَمَثَلِ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا عَلَى سَفِينَةٍ فَأَصَابَ
بَعْضُهُمْ أَعْلاهَا وَبَعْضُهُمْ أَسْفَلَهَا فَكَانَ الَّذِينَ فِي أَسْفَلِهَا
إِذَا اسْتَقَوْا مِنْ الْمَاءِ مَرُّوا
عَلَى مَنْ فَوْقَهُمْ فَقَالُوا لَوْ أَنَّا خَرَقْنَا فِي نَصِيبِنَا خَرْقًا
وَلَمْ نُؤْذِ مَنْ فَوْقَنَا فَإِنْ يَتْرُكُوهُمْ وَمَا أَرَادُوا هَلَكُوا
جَمِيعًا وَإِنْ أَخَذُوا عَلَى أَيْدِيهِمْ نَجَوْا وَنَجَوْا جَمِيعًا .. البخاري
ومسلم .
إنَّ مَثلنا اليوم كمثل قوم ( استهموا في
سفينة ) والاستهام يحمل معانٍ تشير إلى حقيقة الشراكة والاشتراك ، والعقد والتعاقد
، والتعدد والتنوع ، إنها شراكة وطنية ، في سفينة الوطن ، وقد عبّر الحديث بـ( السفينة
) ؛ وذلك يشير أيضاً إلى معاني الوحدة الوطنية ، ووحدة الهوية الغالبة التي تعني
وجود النهج الواضح ، والمقصد والغاية المحدّدة ، إذن فالاستهام كما يُشير لاجتماع
أبناء الوطن ولُحمتهم وتشاركهم ، يُشير في الوقت ذاته إلى تعدّدِ وتنوّعِ تلك
المُشاركة مِن حيث العناصر والأساليب ووسائل تحقيق المصالح.
ثم إنَّ تلك السفينة (الوطن) قد أقلَّتْ
أصنافا من الناس ، ذوي وظائف متعددة وتخصصات متنوعة ، واهتمامات مختلفة ، ورؤى بل
ومُنطلقات متباينة ، فهناك قوم في أعلاها على اختلافٍ في مكانهم وتقسيم أعمالهم
وتمايز قدراتهم وتباين أفكارهم بل وطرق تفكيرهم ومذاهبهم في ذلك ، وآخرون في
أسفلها ، يمرون على أولئك في الأعلى عند قيامهم بتلبية حاجاتهم الأساسية من ماء –
وهو أصل الحياة ومناط استمرارها وفقدانه أو عدم الحصول عليه يعني الهلاك والنهاية –
ونحوه ، وهذا المرور الذي يُعبِّرُ عنه الفقهاء والقانونيون بـ(حق الارتفاق) هو
جزء من حزمة التكافل الاجتماعي وأنظمته التي أرساها الإسلام وأسس عليها جملةً من
الحقوق يمكن أن يُبحث عنها في مَظَانِّها مِن أبواب الفقه ومصادره المعروفة ، وبناءً
عليه فإنَّ مِن حقِّ أبناء السفينة الواحدة أينما كانوا في أعلاها أو في أسفلها أن
يستفيدوا من ذلك الحق طالما هناك توزيع وظيفي يُحدِّدُ عناصر التكافل والتكامل
بينهم ، ولا يَحِقُّ لأحدِهم أنْ يعتدي على الآخر أو يمنعه حقاً.
إن هذا كله من لوازم التعايش الإنساني الذي
لا جدال فيه ولا مراء ، إذ قاعدة الوطنية وحقوق المواطنة أنَّ:( لهم ما لنا وعليهم
ما علينا ) فتقوم حينئذ تلك المنظومة الحقوقية بدور الحافظ لاستمرار الشراكة
وفاعليتها وبقائها ، فضلا عن حفظ الكينونة والوجود من أساسه من خلال تلبية تلك
الحاجات الأساسية ، وبذلك يكون التنوع والتقسيم في الأعمال والمهام ضماناً لحياة
المجتمع وفاعليته بل وبقاءه ؛ إذ ليس للأعلى – ضمن وضعه الوظيفي – أن يدعي قيمة
تفضيلية تغريه بالتحكم أو التعسف أو إساءة استخدام حقه بما قد يؤدي إلى إضرار أو
أذى للغير ، تحت تأثير الهوى أو سيطرة الاستبداد ، هذا هو منطق الوجود وسنة
الاختلاف والتنوع المفضي إلى التكامل والتكافل البشري وإلاّ فإنه لا بديل إلاّ
الفوضى والنزاع والتنازع ، والتلف بل والموت والزوال بكل ما تعنيه هذه الكلمات من
معانٍ ( هَلَكُوا جميعاً ) فإذا كان الأمر هكذا ، فما محل المضمون التحذيري الشديد
الوارد في الحديث والذي جاء في التعبير النبوي ( فَإِنْ يَتْرُكُوهُمْ وَمَا
أَرَادُوا هَلَكُوا جَمِيعًا ). نحن في هذه الحياة في مركبٍ واحدٍ ، ولكنا مسئول
عن سلامة هذا المركب ، ولا ريب أن ثمة مخاطر تُهدد المركب ، وهذه المخاطرُ خارجيةً
وداخلية .
أيها الإخوة :
الرسولُ صلى الله عليه وسلم ، وصف لنا سفينةَ المجتمع ، وكشف عن أسباب
سلامتها ، وحذر من خرق السفينة ومن يخرق السفينة ، والنتيجة المرّة لغرق السفينة
.. موضحاً بذلك أهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عبر مثال يعقله العالمُ
والعامي والرجلُ والمرأة ، والصغيرُ والكبيرُ فتعالوا بنا نقرأ هذا المثل النبوي ،
ونسترشدُ بالهدي الرباني ، في تشخيص بديع للقائم على حدود الله ، والواقع فيها ،
وحُماةِ السفينة والخارقين لها .
لنقرأ الحديث مرة ثانية : (( مثلُ القائمِ
على حدودِ اللهِ ، والوقعُ فيها كمثل قومٍ استهموا على سفينةٍِ ، فأصاب بعضُهم
أعلاها ويعضُهم أسفلها فكان الذين في أسفلِها إذا استقوا من الماء مّرُوا على من
فَوْقَهم ، فقالوا : لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً ولم نؤذِ من فوقنا إن يتركوهم
وما أرادوا هلكوا جميعاً ، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً )) .
أيها الإخوة :
إن
من الأسئلةِ المهمة تجاه هذا الحديثِ سؤالاً يقول : هل أنت من حُماة السفينة أو من
الخارقين فيها ؟
وقبل أن تُجيب لا بد أن تستيقن انه ليس من
طريقٍ ثالثٍ غير هذين الصنفين يتحكم في مصير السفينة ، فأما قيادةُ حُماةِ السفينة
حيث تكون سلامةُ المركب ، وإما قيادةُ الخارقين لها حيث يكون الغرق ، ومن هنا فلا
مجال للصمت والسلبية في وقت يتحرك فيها الخارقون وينشطون لإفسادها – وإن زعموا
الإصلاح أو ظنوا خطئاً أنهم يريدون الصلاح ؟
إن المتأمل في أي مجتمع من المجتمعات لا
يراه يخرج عن حالاتٍ ثلاث ، فإما أن ينتشر المعروف ويكثر المصلحون ، وإما أن يشيع المنكرُ
ويتطاول المبطلون ، وأما أن يكون دُولةً بين الأخيارِ والأشرار، ويَشيع فيه
المعروفُ والمنكرُ على حدٍ سواء .
ولكن الشيءَ الذي ينبغي أن يُدرك جيداً ، أن
ضعفَ الأمر بالمعروف وانحسارَ النهي عن المنكر في مجتمع ما من المجتمعات ذو خطورةٍ
بالغةٍ ومضاعفةٍ فليست المشكلةُ في ضعف الأمر والنهي وقلة الخير وضعف الأخيار ، بل
فوق ذلك قوةُ المنكر وسيطرةُ الأشرار والنهيُ عن المعروف وغيابُ الأخيار– وحين
يبلغ الفسادُ بالمجتمع هذا المبلغ فقل على الفضيلة السلام ، وصلّ صلاةَ الغائب على
الأخيار ، إلاّ أن يتداركهم اللهُ برحمته ، ويبعثَ من يوقظُهم من رقدهم ؟
عبادَ الله :
وإذا اختلف الناسُ في أسبابِ الفلاح وعواملِ
البقاءِ ، وأسبابِ الشفاءِ ، وعواملِ الفناء ، فالحكمُ لله ، والمرجعُ شرعُ الله ،
واللهُ يقصُ الحقَّ وهو خيرُ الفاصلين ، ويقول في محكمِ التنزيل (موضحاً أسباب
النجاة والهلاك) .
{ وَلَوْ
أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ
مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ
يَكْسِبُونَ } (سورة الأعراف: 96) .
ثم قال في نهاية هذه الآيات { أَوَلَمْ
يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأَرْضَ مِن بَعْدِ أَهْلِهَا أَن لَّوْ نَشَاء
أَصَبْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ}
(سورة الأعراف: 100) .
ويقول تعالى في سورة أخرى : { وَأَلَّوِ
اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأسْقَيْنَاهُم مَّاء غَدَقاً لِنَفْتِنَهُمْ
فِيهِ وَمَن يُعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَاباً صَعَداً } .
ومنذُ القدم والناسُ منهم مؤمنون ومؤمناتٌ
يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر .. ومنافقون ومنافقات يأمرون بالمنكر وينهون عن
المعروف وفضلُ الله يؤتيه من يشاء فمنهم مفتاحٌ للخير مغلاق للشر ، وآخرون مغاليق
للخير مفاتيحُ للشرِ ، يَضَعَفَ إيمانُهم باللهِ ويستبعدون الجزاء في اليوم الآخر
فتنتكس فطرُهم ويزعمون أنهم مصلحون وهم مفسدون ، ويحسبون أنهم يُحسنون صُنعاً ،
وهم يجنون على أنفسِهم وعلى مجتمعهم شروراً وفتناً ، والمنافقون بلا ريب ممن يَخرق
السفينة ويغرقُ أهلها على أننا حين نستقرأ الواقع نجدُ أصنافاً أخرى غيرَ هؤلاء
المنافقين يسهمون في خرق السفينة .. ولذا لا بد أن نفتشَ عن مَن يخرقون السفينة ،
ونحددَ ملامحهم ونحذر صنيعَهم ومن هؤلاء المُتبعون للشهوات الغارقون في الملذات
سواءً صح طريقُها أم لم يصح ، وسواء كانت شهوات مباحةً أو محرمة ، أولئك ينقبون في
السفينة ، ولو مالت بأهلها ميلاً عظيماً ، وصدق الله { وَيُرِيدُ الَّذِينَ
يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيماً } (النساء: 27) .
أهلُ الغرورِ والكبرياء الذين يرون الرشدَ
بعقولهم وحدهم دون أن يلتفتوا إلى عقول الآخرين ، بل ربما حكموا على عقول غيرِهم
قبل أن يعلموها ، وربما صادروا آراء الآخرين قبل أن يستبيتوها ، وقد عاب القرآنُ
على فرعون مقولتَه { مَا أُرِيكُمْ إِلاّ مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلاّ
سَبِيلَ الرَّشَاد } (غافر: 29) .. وما
نفعه الوعيُ حين جاء الغرق : { حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ
أَنَّهُ لا إِلِـهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ
الْمُسْلِمِينَ } (يونس : 90) .
قال الله له : { آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ
قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ
لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا
لَغَافِلُونَ } (يونس : 92,91).
ويَخرق السفينة عالمون آكلون بعلمهم ،
يستفيدون لأنفسهم مضللون لأمتهم ، ينسلخون من العلم ، ويتخلون عن نُصح الخلق إنهم
لا يَجْهلون لكن يتجاهلون ، وهم لا يُخدعون لكنهم يَخدعُون يعرفون الحق ولا يدعون
إليه ، ويعرفون المنكرَ ولا يستنكرونه – أولئك خَرقهم في السفينة عظيم ، وفتنُهم
للناس كبيرة ، ونماذجُهم في الأمم السالفة : { إِنَّ كَثِيراً مِّنَ الأَحْبَارِ
وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن
سَبِيلِ اللّهِ } (سورة التوبة : 34) .
أقول ماتسمعون ..
الخطبة الثانية :
إخوة الإيمان :
ويخرق السفينة أنانيون لا يشعرون إلاّ
بأنفسهم ولا يفكرون إلاّ بذواتهم وإن لاحت لهم بوادرُ الخطوب لا يهمهم صلاح
المجتمع أو فسادُه ، ولا تتمعرُ وجوههم للمنكرات وتشيع هنا وهناك دائرةُ تفكيرهم
ضيقة ، ومساحةُ الغيرةِ عندهم محدودة .
ويُسهم في خرق السفينة سطحيون لا يدركون
حجمَ الخطر ولا يتصورون ضخامةَ المصيبة النازلة ، ولا ينظرون إلى مستقبل الأيام
بعمقٍ وروّية ، لا يسمعون للنداءات المحذرة ، وإن سمعوا لم يستجيبوا إذا علا صوتُ
النذير رأوه مبالغاً ، وإذا اتضح هدفُ المفسدين لم يحركوا ساكناً ولم يدفعوا
باطلاً .
ويخرق السفينة أحمقٌ متهور يريد أن ينتقم
لنفسه أو ينتقم من الآخرين ، فيحاولُ بكل وسيلة إغراق أهل المركب وإن كان هو ضمن
قائمة الغرقى ، وتضيق به مساربُ الحياة فيختارُ تحطيمَ نفسِه والآخرين ، مرددا
المقولة المشهورة :( عليَّ وعلى أعدائي ) .
ويُسهم في غرق السفينة متعجلٌ وإن كان هدفُه
خيراً وغيرُ حكيم وإن كان قصدُه حسناً ، فقد يقودُه اجتهادُه إلى نزع خشبة في
السفينة ليسدّ بها خرقاً آخر ، فإذا الخرقُ الذي أحدث أشدُ ضرراً وأدعى للغرق ؟
وما فاته أن يستشيرَ غيرَه قبل أن يُحدث الضرر الذي أحدث .
أيها الإخوة المسلمون :
ليجعل كلُّ واحدٍ منكم نفسه منقذاً للسفينة
، لا خارقاً فيها ، وليس يخفى انه ما من منكرٍ يتصدى له الناسُ بالإنكار ، إلاّ
توارى هذا المنكرُ أو جلُّه ، أو دفع اللهُ بهذا الإنكار منكراً خراً سيترتب على
المنكر قبله ، ولو لم يكن من ذلك شيءٌ فتكفي المعذرة { َقالُواْ مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ
وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } ( الأعراف : 164) .
وإذا كان الناسُ كلُّهم إذا مُسَّتْ
مصالحُهم الدنيوية ثاروا واستنكروا دون أن يُنيب أحدٌ منهم غيرَهم ، فأصحابُ
الغيرة والذين تتّمعر وجوهُهم للمنكر هو الذين يستنكرون ويتحركون إذا اعتدى على
الدين واستخف بالقيم والأخلاق والسلوكيات الحميدة.
وتلك شهادةٌ لهم عاجلةٌ بالإيمان في الدنيا
وأجرُهم على الله يوم يلقونه ، وقد قاموا بأمرِه: { وَمَا يَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلَن
يُكْفَرُوْهُ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ } ( آل عمران : 115) .
وخلاصة القول أيها الإخوة : نؤكد على :
أولاً : الرجوع إلى الله وتحكيم شرعه ،
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كل من موقعه وحسب قدرته وسلطانه .
ثانياً: المحافظة على سفينة المجتمع من عبث
العابثين وفساد المفسدين .
ثالثاً : أنَّ على الدولة بكل أجهزتها رفع
المظالم عن المظلومين .
رابعاً : يحقُ لكل مظلوم أن يطالب بمظلمته
بالطرق السلمية ، دون إحداث خرق في جدار سفينة الوطن والوحدة .
وصلو وسلموا ..
خطبة جمعة 2 ربيع الآخر
1433هـ الموافق 25 فبراير 2012م
بمسجد عمر حيمد بسيئون /
القرن
تسجيل صوتي