تدرّج ( سعيد ) في مدارج العلم حتى صار مهندساً، خمساً من السنين قضاها في معمعة عظيمة حتى لبس القبعة المفلطحة والجلباب الأسود، صرخ عالياً تسبق صيحته دمعة ترقرقت بين خديه، بكت أمه وأبوه وإخوته جميعاً بعد أن رأوه خريجاً. سلك سعيد دروب الحياة باحثاً عن عمل، لم يستطع إيجاد واحد مما يتناسب مع تخصصه الذي تشرئب له الرقاب، طاف البلاد طولاً وعرضاً حتى أضناه المسير، وضاقت به السبل، لقد صار تنقله في الشوارع وبين أبنية الشركات عملاً مضنياً بحد ذاته، إذ يعود في الظهيرة وقد تيبست رجلاه، وأصاب قدميه الوهن. استمرّ به الحال كذلك أشهراً طوالاً، يئس من طول المسير وحرارة الانتظار، حاول البحث عن سماسرة الوظائف لكنهم تواروا عن ناظريه، ولإيجادهم عليه أن يستعين بمخبرين يمسكون الخيط السري فلم يجد أحداً منهم أيضاً، أراد أن يدفع لشراء وظيفة ما في مكان ما مهما تكن ومن دون أية شروط يشترطها إلا أنه فشل. أغلق السماسرة في وجهه باب الأمل لأن لهم زبائن معروفين لم يكن المسكين منهم، ولم يمتلك أي واسطة لتنتشله من وهدة الحيرة والخراب النفسي، قرع عليهم الباب مرات ومرات لكنهم أغلقوا مجدداً، لا تستغرب، هكذا هم الأشقياء دوماً. لم يكنْ يوماً حريصاً على استجداء عطف الناس وشفقتهم .. كان يسلك على الدوام دروباً ليتجنب أماكن لهوهم .. غير البريء، ولم يطرأ بخلده يوماً أن يستعين بحقير يغلق في وجهه الباب. مضى المعذّب في طريقه لا يلوي على شيء كلما رأى الأعين تنظر إليه بفرح وتتمنى لو يطول أمد معاناته واغترابه الدامي، أعوام مرت ولم يستطع تحقيق شيء من أحلامه التي طالما داعبته حياً وميتاً في الفراش الموتة الصغرى. تمالك نفسه وضرب الأرض بعقبه في هياج، هكذا هم الناس .. هو يعرفهم، ويعرف دخائل أنفسهم الغليظة، ولأجل ذلك لم يعبأ بهم ولم تندّ عن شفتيه آهة أو شكوى. مرت سحائب السنين من دون غيث، وقف في صف طويل، شعر أن الانتظار قطعة من عذاب غير أن وطنه أمسى هو الآخر كومة من عذاب، لاقى من الإذلال ما فيه الكفاية، يقال إن الجوع لا يمكنه أن يحيا وحده ، بل عليه أن يتنفس الإذلال لكي يدوم، والمعضلة أن هذا الإذلال لا نعانيه من أصحاب الجاه والمال قدر ما نعانيه من أبناء جلدتنا ، الجميع يشتركون بإذلال الجميع كأنهم ينتقمون ، الآباء يذّلون الأبناء، الكبار يذّلون الصغار ، الرجال يذّلون النساء، المعلمون يذّلون التلاميذ ، الموظفون يذّلون المراجعين ، هكذا في شبكة جهنمية من الإذلال اليومي العلني والمتستر. في الأخير وبعد أن يئس من إيجاد عمل يصبّ في مجال تخصصه الهندسي قرر أن يقتحم المجال الذي طالما لم يرغب باقتحامه يوماً ، ألا وهو مجال التدريس، كره هذه المهنة بالرغم من علو مكانة من يمارسها، وروحانية هذا العمل في صنع مزيد من العبيد ( من علمني حرفاً صرت له عبداً )، ولأنه يكره العبودية فقد كره سعيد التدريس. قدّم ملفه في إحدى المدارس الخاصة، معلم الرياضيات كان مطلوباً بشدّة، ولأنه مهندس فقد أجاد الرياضيات بشكل ممتاز، وبعد المقابلة تعاقدوا معه على الفور على أن يبدأ مشواره في العام المقبل. استقبل العام الدراسي بنفس توّاقة وبدأ مشوار العلم .. في الحصّة الأولى .. دخل إلى الصف .. استدار ليكتب على السبورة عنوان الدرس .. سمع همهمات .. همسات .. ضحكات .. " من أصدر هذه الأصوات ؟ " سأل الطلابَ بغضب ! لم يُجِبْهُ أحد .. كرر السؤال .. أعاده .. لم يلقَ إجابة .. وساد الصمت.انهارت أمام عينيه أماني المستقبل، انطفأت جذوة حماسته، تأفف .. تأسف .. تضجّر .. لعن اليوم الذي أصبح فيه مدرّساً .
إضافة تعليق